عندما تمارس إيران «الفعل» ابتداء – عبر ميليشياتها – في كل من سوريا والعراق واليمن، وتحتفظ بحق «رد الفعل» تجاه إسرائيل، فإن «الفعل» من جهة و«الاحتفاظ بحق الرد» من جهة أخرى ليس سياسة اعتباطية، حيث لا ارتجالية في سياسات طهران، وإن كان «الاعتباط» من خصائص جمهور واسع يؤيد سياساتها، دون النظر إلى دوافع تلك السياسيات.
بالأمس القريب كانت ميليشيات طهران التي تمثل «الفعل الإيراني» في اليمن تقاتل أبناء محافظة البيضاء بغطاء من الطيران الأمريكي في رداع، بذريعة محاربة «القاعدة وداعش» في تعاون إيراني أمريكي مثمر، عبّر وزير الدفاع الأمريكي الحالي لويد أوستن أثناء توليه مهام القيادة المركزية الأمريكية عن رضاه حينها عن مستوى التعاون، وعن غضبه من تدخل «التحالف العربي» آنذاك، حسب تصريحات أحد مساعديه الذي ذكر لـ«فورين بوليسي» أن أوستن كان «غاضباً من التدخل السعودي، لأننا كنا ندعم بهدوء قتال الحوثيين ضد القاعدة في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت».
وبغض النظر عن مآلات تدخل «التحالف العربي» في اليمن فإن تصريحات أوستن تشير إلى توافق تام بين مخططات واشنطن وطهران في البلاد، في تلك الفترة، وتنم عن رضى أمريكي عن الدور الذي مارسته إيران في اليمن، عبر أدواتها الحوثية، آنذاك، وهو الدور الذي قال عنه عبدالكريم الخيواني، وهو أحد كبار الكتاب الحوثيين: «لقد أيد الله أولياءه الحوثيين بأعدائه الأمريكيين» في الحرب، معتبراً هذه إحدى الكرامات التي نالها الحوثيون في «جهادهم» في اليمن، في تفسير لاهوتي، يتجاوز حقيقة التنسيق بين الأمريكيين والإيرانيين إلى وجود معجزات إلهية سخرت الأعداء للأولياء.
وإذا كان التنسيق الأمريكي الإيراني في «الحرب على الإرهاب» في اليمن على هذه الدرجة من الوضوح، فإنه في العراق وسوريا كان أكثر وضوحاً منه في الحالة اليمنية، حين كان الجنرال قاسم سليماني يقود الميليشيات التي تدعمها بلاده في البلدين، وهي تهاجم وتحرق وتدمر على أساس طائفي، وتحت ذريعة الحرب على الإرهاب، وبغطاء أمريكي، تجلى في أنصع صوره في معارك الموصل في العراق.
ومرجع ذلك التنسيق إلى توافق أمريكي إيراني حينها على تعريف الإرهاب والجماعات المستهدفة، رغم اختلاف المقاصد، فالإرهاب – ضمنياً – في المفهوم الأمريكي هو «إرهاب إسلامي» وهو – ضمنياً – في المفهوم الإيراني «إرهاب سني» والمفهومان متطابقان، بالنظر إلى الأهداف الاستراتيجية لكل من واشنطن وطهران، في السماح ببعض النفوذ الإقليمي الإيراني في المنطقة، لأهداف غير بعيدة عن محاولات واشنطن ابتزاز الأصدقاء، من جهة، وتسريع عجلة التطبيع مع إسرائيل، من جهة أخرى، وهي أهداف تحققت لواشنطن وتل أبيب، وإن بشكل جزئي.
ويمضي وقت ليس بالطويل على هذا التنسيق الأمريكي الإيراني في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وفي أفغانستان، ويأتي «طوفان الأقصى» وتختلف بعض الشيء الأجندات الأمريكية الإيرانية في المنطقة، وهو الاختلاف الذي لا ينبغي أن يفسد للمصلحة قضية، إذ أن الاختلاف على القضايا الصغيرة لا ينبغي أن يفسد مكتسبات سنوات من التنسيق أدت بالنسبة للإيرانيين إلى سيطرتهم على أربع عواصم عربية.
وإذا كانت السنوات الماضية قد شهدت «فعلاً» إيرانياً، فإن الشهور الماضية – على وجه التحديد – قد شهدت تراجع هذا «الفعل» من رتبة «المبادرة الفاعلة» إلى رتبة «الرد غير الفاعل» أو بالأحرى «الاحتفاظ بحق الرد» وهو ما يؤكد ما نقوله من أن «الفعل» الإيراني يحضر بقوة عندما يتعلق الأمر بالحروب الطائفية في المنطقة العربية، ويغيب ليحل محله «الاحتفاظ بحق الرد» عندما يتعلق الأمر بالحرب مع إسرائيل.
تعرف طهران جيداً أن حربها ـ عبر ميليشياتها ـ على اليمنيين والعراقيين واللبنانيين والسوريين ليست كحربها على الإسرائيليين، وتعرف جيداً أن توسعها الإقليمي عبر الميليشيات كان بفضل وجود المشروع الإسرائيلي، وبذريعة مقاومته، تماماً، كما تعرف إسرائيل أن تمددها الإقليمي عبر «التطبيع» كان بفضل المشروع الإيراني بذريعة مواجهته. فلولا وجود إسرائيل لما وجدت إيران ذريعة لتدخلها في البلدان العربية، عبر ميليشياتها، ولولا وجود إيران لما توسعت إسرائيل، عبر التطبيع، ولما تحصلت كذلك على أرباح سياسية لا تقدر بثمن، في مقدمتها هذا التضامن الغربي، وليس أقلها التطبيع الذي كان بذريعة مواجهة التوسع الإيراني في المنطقة.
واليوم تجد إيران نفسها عاجزة عن «الفعل» الذي لازم سلوكها في سوريا والعراق واليمن، هي عاجزة اليوم، لأنها تعرف جيداً الحدود التي رُسمت لها، حيث يمكنها أن تلعب في الملعب الذي يحدده الأمريكيون، وهي حدود لا يمكن تجاوزها، مهما حاولت طهران الظهور بمظهر من يتحدى تلك الحدود، وذلك برضى ورغبة أمريكية، ولأهداف معروفة.
واليوم، وبعد أن دمرت إسرائيل قطاع غزة، وشنت حربها على لبنان تعود إيران للغة التهديد والوعيد، مع التذكير بمقولات من مثل: «الصبر الاستراتيجي» و «تأخر الرد جزء من الرد» و«الاحتفاظ بالرد في الزمان والمكان المناسبين» وغيرها من مقولات يبدو أن جمهورها لم تعد لديه القدرة على شرائها.
لقد دأب ما يسمى بـ«محور المقاومة» على جني أكبر الأرباح بأقل الاستثمارات في فلسطين، ولكن انتهازيته تلك هي التي ـ فيما يبدو ـ منعته من دخول المعركة بالقوة ذاتها التي دخل بها معاركه في سوريا، وهذه الانتهازية هي التي أوصلته إلى هذا القدر من المهانة، لأنه ظن أن بإمكانه الاستمرار في لعبة «الاستثمار القليل مقابل الربح الكبير» غير مدرك أن قوانين السوق تتغير، وأن حركة البورصة لا تستقر على حال.
باختصار شديد يبدو أن إيران تنتقل من دائرة «الفعل المبادر» إلى مرحلة «الاحتفاظ بحق الرد» وسبب ذلك الانتقال يعود إلى أن ساحات الفعل الإيراني كانت بعيدة عن المساس بالمصالح الأمريكية الإسرائيلية، بل إن الفعل الإيراني المبادر كان يصب في خانة تلك المصالح، عندما أسهم إسهاماً كبيراً في إنهاك بلدان عربية بعينها، وشغل العرب بحروب طائفية، لم تعد بفعلها القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية. وفي المقابل فإن إيران عندما جربت نقل «فعلها المبادر» إلى ساحات أخرى تؤثر على المصالح الإسرائيلية الأمريكية فإنها وجدت نفسها في مواجهة «أفعال» حازمة، جعلت طهران تنتقل من دائرة «الفعل» ولكن ليس إلى دائرة «رد الفعل» بل إلى دائرة «الاحتفاظ برد الفعل» وهو السلوك الذي يسلكه العاجزون عن «الفعل» وعن «رد الفعل» على طول تاريخ الصراعات.