لم تسقط الدولة إلا عندما تم إضعاف أعمدتها الأساسية، والدولة الديمقراطية والشعبية أعمدتها هي الأحزاب السياسية، التي تتنافس بنزاهة على السلطة، وكل حزب يحمل مشروع سياسي وفكري وثقافي، وأهم ما في الأحزاب أنها البديل الأفضل للتكتلات الطائفية والمناطقية، تذوب فيها العرقية والإثنية، فكل حزب ينطوي فيه أعضاء من كل المناطق وكل الأعراق والطوائف والعقائد، إلا فيما نذر.
في غياب الحزبية تبرز بقوة المناطقية والطائفية والجهوية بمختلف أشكالها كبديل، مما يسهل تسيد منطقة وطائفة وسلالة على البقية.
ولكي لا ننهض لعب أعدائنا على شيطنة الحزبية، وذهب الجميع ليرمي كل أخطاء المنظومة السياسية على الأحزاب، والحقيقة أنها منظومة في شكلها العام حزبية، وفي جوهرها سلالية ومناطقية، حيث تسيد منطقة وطائفة وقبيلة على القرار السيادي، وتستأثر بالدولة وتسلبها وتفرغها من فكرتها الحقيقية.
بدأ انهيار فكرة التعدد الحزبي والتنافس النزيه على السلطة بعد الاستقلال في 67م، عندما استأثرت الجبهة القومية بالسلطة بدعم القبيلة والعشائر التي كانت منطوية في جيش من صناعة المحتل البريطاني، مما شكل تحالفات خفية قبلية وعشائرية وطائفية ، ساهم في إحداث شروخ تسببت في صراعات متتالية، وصلت لذروتها في 13 يناير 86م وانهارت تلك الدولة، والهروب للأمام نحو الوحدة مع الشمال الذي كان يمثل دولة تحكمها طائفة، ونظام محمي بتحالف قبلي وسلالي، لم يقبل فكرة الدولة والتعدد السياسي والحزبية الحقيقية، فاشتغل على ترسيخ الفتنة التي كانت قائمة في الجنوب، ومع تصلب العقلية المناطقية في الجنوب، وجد أدوات جاهزة للعمل والثأر والانتقام، واستطاع في حرب 94م تثبيت نظام الشمال بكل علاته، استطاع تحويل الحزبية لمجرد كيانات هزيلة، من خلال تفريخ عدداً منها، وتحالفات شيطانية تعزز دور القبيلة والسلالة والمناطقية والطائفية، وهي الثعابين التي لعب عليها عفاش، ثم أطلقها في ثورة الربيع اليمني، والتهمته في نهاية المطاف وهي اليوم تعيش على ما تبقى من وطن، تذر سمومها في كل بقاع الأرض شماله وجنوبه، حيث المواطن يعيش الويلات والنكبات والتجويع والمخافة والمجاعة. واستمرت فتنة شيطنة الحزبية، وبرز مشايخ تفتي بتحريمها وتجريمها، ليكن البديل طوائف ومناطق ومذاهب وقبائل وسلالات متناحرة، تلعن بعضها بعضاً، وتتفاخر بالقوة والجاه، مما مكن أعداء الدولة الوطنية من دعم هذا التوجه وتم تسليح القبيلة والمذهب، وتمكنوا منا في صناعة أدوات صراع يديرونه بحقارة، وأصابنا وابل شيعة وسنة، شمال وجنوب، شرق وغرب، أحزمة ودروع، ومكونات مناطقية تتشكل، هويات صغيرة تطفو على الهوية الوطنية، واتهامات وتخوين وترهيب، تطلب تشكيل قوات تحارب الإرهاب وترهب فكرة الدولة والحزبية والتعدد السياسي والفكري والثقافي، وتعزز الجهوية بكل أشكالها، وتم استلاب العقول وحق الرأي وحق الفكر، والحق السياسي في التكتل السياسي والفكري، وأنجر خلف هذه الرداءة مثقفين وأكاديميين ومتعلمين.
الحقيقة أن في عقل كل من هؤلاء طفلاً مناطقياً وقبلياً يعيش منذ النشأة، ويقاوم فكرة التحديث والتطوير، فوجد البيئة التي أنعشته وتقوى عوده، وهم اليوم يدافعون باستماته عنه، وهي الصورة الذهنية التي يتبعونها على أمل أن تسيد القبيلة والعشيرة التي ينتمون إليها، فلا غرابة أن نسمع لمشاريع استعمارية تعود للواجهة، ومشاريع طائفية مناطقية تبرز للسطح، وتقسيم ما يمكن تقسيمه بمبررات مناطقية أيضاً وضرر طائفي وسلالي، هم مجموعة ضعفوا أمام إغراءات المرحلة، وسقطت من أفكارهم القيم والمبادئ والأخلاقيات وسقطوا وسقط الوطن.
نحن اليوم نعيش أسوأ مراحلنا متخصصون في ممارسة الخلافات العبثية، بذهنية مريضة نعيشها، غير قادرة على أن تحمل مشروع حداثي ينهض بفكرة الدولة الوطنية، وقبول الآخر المختلف، وحمل مشروع عربي قومي إسلامي يقاوم المشاريع الصهيونية والإمبريالية والرجعية، نحن مجرد مجموعة منبهرة بإغراءات المال والجاه والعمران، ونسينا بناء الإنسان وقيم وأخلاقيات الإنسانية، ومشروعنا العربي الكبير، فهل نصحو ونعيد ترتيب أولوياتنا وأوراقنا كأملة. بالاستناد لحضارة وإرث عظيم، وأن غدا فيه أن نكون أو لا نكون.