الليبرالية هي الحرية والمساواة، والليبراليون هم الذين يقدسون الحريات السياسية والاقتصادية، ويؤمنون بالمساواة الاجتماعية، بغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية والثقافية وغيرها.
وعلى المستوى النظري، يفترض أن يفرح الليبراليون بسقوط الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، بعيداً عن أي اعتبار، لكن بعض «الليبراليين العرب» يتصرفون بطريقة غريبة، ويتعمدون «الانتقائية» في التعاطي مع الأحداث في المنطقة العربية.
«الليبرالية العربية» ليبرالية غريبة، تبدو تارة مجرد غلالة رقيقة تغطي توجهات طائفية وعرقية وسياسية وأيديولوجية مختلفة، ووفقاً لهذه الليبرالية، يصبح الديكتاتور حامي حمى البلاد، وكافل الحقوق والحريات الشخصية، وضامن حقوق المرأة، والمنفتح على قيم الحداثة، لا لشيء إلا لأنه ينتمي لنوع من «الليبرالية الطائفية» التي يبدو أنها المفهوم السائد لدى بعض الليبراليين العرب، في حين أن الليبرالية السائدة لدى البعض الآخر من هؤلاء الليبراليين هي تلك الليبرالية التي تجسدها الأنظمة التي تقمع خصوم هؤلاء الليبراليين.
في السنوات الأولى لما سمي بثورات «الربيع العربي» شجع ليبراليون عرب تلك الثورات، وعدوها حركات تحرر جديدة، وثورات حقيقية للتحرر والانعتاق من الفساد والديكتاتورية، غير أن ذلك التشجيع كان انتقائياً، إذ تحمس هؤلاء الليبراليون لربيع تونس ومصر وليبيا واليمن، مع محاولة لإثارة ربيع في البحرين والمغرب، غير أن موجة الربيع عندما وصلت سوريا، اصطفَّت «الليبرالية الطائفية» إلى جانب النظام الديكتاتوري في وسوريا، بشكل فجّ، دون مراعاة لأي من طروحات الفكر السياسي الليبرالي الذي يلوكون مفرداته صباح مساء.
ومع أن النظام الإيراني وميليشياته – على سبيل المثال – لا ينتمون للسياق الليبرالي، إلا أن جوقة إعلامية كبيرة تحركها «الليبرالية العربية» اصطفت إلى جانب ذلك النظام الديني، وتلك الميليشيات الطائفية، ضاربة عرض الحائط بمقولات الليبرالية التي لا تحضر إلا عندما يظهر للواجهة حراك ديني مقابل، وهنا يرتفع الصوت المحذر من ضياع الحريات والحقوق، على يد «الملتحين المتشددين الدواعش» الذين يريدون العودة بنا إلى العصور الوسطى، وكأن النظام الإيراني يقوم على أحدث ما أنتجه الفكر الليبرالي المعاصر.
ما يدعو للسخرية أن «ليبراليات عربيات» هاجمْنَ زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، لأنه طلب من فتاة أرادت أن تتصور معه، طلب منها أن تغطي شعرها، ولو بشكل جزئي، قبل أن تأخذ صورة معه، لكن هؤلاء الليبراليات شوهدن محجبات، عندما التقين معممين في إيران والعراق، وكأننا إزاء ليبرالية تقف مع الحجاب في إيران، وضده في سوريا، لا لشيء إلا لأن الذي يأمر بالحجاب في طهران رجل دين من النسيج الطائفي الذي يؤطر فكر وحركة تلك «الليبرالية المعممة» وهو الأمر غير المتوفر لدى الآخر الذي طلب أن يغطى الرأس في دمشق، في انكشاف واضح لتوجهات تلك «الليبرالية الطائفية».
ما معنى أن يحظى نظام ديني بالقبول لدى ليبراليين يشنون حملات مسعورة ضد الجماعات والأحزاب السياسية الدينية؟! ما معنى أن يتغاضى هؤلاء الليبراليون عن سجون نظام طائفي، هي بالأساس مسالخ بشرية، فيما هم يشنعون على جماعة دينية بأنها ضد الحريات العامة؟! ما معنى أن يكون معمر القذافي ـ مثلاً ـ «دكتاتوراً، يجب أن يرحل ليتحرر الشعب الليبي من الظلم والاضطهاد» بينما يُعد بشار الأسد ضمانة لأمن سوريا واستقرارها، وخلوها من الإرهاب، رغم كل الفظائع التي ظهرت في سجون صيدنايا وتدمر وفرع فلسطين، وأكثر من ألف سجن سري وعلني كانت عبارة عن مسالخ بشرية، طافت الصور الخارجة منها جهات العالم الأربع، خلال الأيام الماضية؟!
ما معنى أن يكون «الليبرالي» ضد الحجاب في سوريا، ومع الحجاب في إيران، أن يكون لديه مخاوف من احتماليات فرض حكم ديني في بلد، فيما هو يؤيد حكماً دينياً قائماً – بالفعل – في بلد آخر، أن يرفض التدخل التركي، فيما هو يصفق للتدخل الإيراني، أن يؤيد وجود ميليشيات إيرانية وباكستانية وأفغانية وميليشيات حزب الله، ثم يحذر من خطورة المقاتلين الأجانب والإرهابيين في سوريا؟!
ألا ينطبق على هذا النوع من الليبرالية وصف «الليبرالية الطائفية» التي لم تعد تكيل بمكيالين وحسب، ولكنها تعدت إلى كونها تمثل حالة فصام مرضي، مهجوس بسيل من الخيالات المعلولة والافتراضات المسبقة والعقد الطائفية التي يحاول أصحابها تمويهها بغلالة ليبرالية لا تكاد تخفيها، رغم توظيفهم لغة تغترف من قواميس الليبرالية والحداثة والدولة المدنية، وغيرها من مصطلحات، يحلو لأصحابها أن يعبئوها بما يشاؤون من مفاهيم يفصلونها، حسب الهوى السياسي والطائفي الذي فضحت نفاقه الثورة السورية في 2011، قبل أن تجهز تلك الثورة على ذلك النفاق تماماً في اللحظة التي سقطت فيها دمشق في يد الثوار، لتسقط بسقوطها ورقة التوت التي كانت تستر كل ذلك العري الطائفي الفاضح.
إن ما ضخَّته ماكينات إعلامية معينة خلال الأيام الماضية من كتابات وتعليقات ومخاوف وانتقادات وتلفيق وتزوير ضد الثورة السورية يكشف بالفعل حالة مرضية نعانيها في البلاد العربية، حالة تكشف – بدورها – ضحالة البعد الحداثي لدى مثقفين لا يكفون عن التبشير بمفاهيم الحداثة والمعاصرة، وضرورة الانعتاق من التفكير الماضوي، والتخلص من الموروث القبلي والعصبوي في تراثنا العربي، والسير في أنساق سياسية وثقافية واقتصادية تودي بنا إلى الضفة الأخرى من النهر الفاصل بين الحداثة الغربية والتخلف العربي.
كان أحد النقاد العرب يقول إنه في «داخل كل منا بدوي صغير» ويبدو أن هذا البدوي لم يعد صغيراً، ولكنه بدوي يكبر مع كل منعطف من منعطفات تاريخنا المعاصر، ويظهر معه كمٌّ من التناقضات الناتجة عن كوننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاقتناع بالمنتج الفكري والحضاري لليبرالية، قدر ما نحاول تسليع هذا المنتج في أسواقنا التي لا تزال تخضع لمعايير سوق عكاظ، وذلك بتكييف «المنتج الحداثي» بما يتواءم مع تفكيرنا العصبوي الذي نحاول أن نموهه بتصديره، من خلال كم كبير من المصطلحات الرنانة عن الحداثة والمعاصرة والليبرالية والحقوق والحريات، وغيرها من مصطلحات نعيد صياغة مفاهيمها، حسب المصالح الفئوية والعرقية والطائفية، التي نخفيها تحت تلك الغلالة الرقيقة من «الليبرالية الانتقائية» التي ترى الحجاب في طهران زينة وحشمة، وتراه في دمشق قسراً ورجعية.
ولله في خلقه شؤون!