بعد مرور بضع سنوات على حرب اليمن؛ هزني الشوق لرؤية أقاربي المقيمين في صنعاء..
ترددت طويلا في مطاوعته؛ فقد كرهت رؤية تجمعات الحوثيين, وسماع زواملهم,وقراءة شعاراتهم الجوفاء؛ التي يلطخون بها جدران المناطق التي يسيطرون عليها في وسط اليمن..
فقال لي أقربائي : تعالي , وسوف تتفاجئين بما سترينه ؛ فكل شيء في صنعاء" سابر"!
فتوكلت على الله واستقليت حافلة عمومية؛ وجدت فيها لفيفا من الفرقاء؛ كان بينهم من وصف نفسه ب" المجاهد" وأخبرنا بأنه قد فقد العديد من شباب قريته في معارك مجابهة من أسماهم بـ " العدوان " غير آسف؛ مؤكدا بأنه على استعداد لأن يفدي " السيد" بنفسه وبكل بنيه!
وعرفت من لهجته بأنه من أبناء شمال الشمال؛ وكان يجلس عن يمينه وشماله شابان في مقتبل العمر؛ ترجع أصولهما إلى مناطق في وسط اليمن,وكانا يوافقان على كل ما يقوله..!
ولم يمر وقت حتى عرفنا بأنهما من أفراد الفرقة العسكرية التي يقودها, وأن ثلاثتهم عائدون للتو من ثكناتهم.
كان مظهرهم مروعا؛ أجسادهم هزيلة, أظفارهم طويلة محشوة بسواد القذارة؛ شُعث الرؤوس, غُبر الوجوه, عيونهم قلقة خبا فيها بريق الحياة؛ بدوا كأنهم موتى ناطقين!
وكان ثمة من يستمع لما يقولونه دون أن ينبس؛ وأمارات الرفض والاستهجان تعلو وجهه وتفضح ما يعتمل في صدره!
أما السائق فقد كان يدير دفة الحوار بمكر ودهاء؛ متحاشيا إثارة حفيظة الجميع, وقريبا منه يجلس رجل كهل لا هم له سوى الاعتناء بزوجته المريضة , وقد عرفنا بأنهما متجهان إلى صنعاء لرؤية ولدهما الذي أصيب في إحدى المعارك , وهو طريح الفراش في إحدى غرف المستشفى؛ بين الحياة والموت!
كنت أجلس في مؤخرة الحافلة مع محارم لي ؛ نتأمل في الموقف بصمت..
وصلنا إلى صنعاء قبل غروب الشمس؛بعد سير طويل ومجهد, وقد بلغ بي الإعياء مبلغه؛ غير أن تعبي تبدد بفعل الصدمة..
لقد انبهرت وأنا أراها ترفل في حلل من الرفاهية والأمن والوفرة؛ بل أنها أحسن حالا مما كانت عليه قبل الحرب!
والمدهش حقا هو أني لم أر تجمعات لجند الحوثيين, ولم أسمع ضجيج زواملهم تنبعث من كل مكان, ولم أر شعاراتهم تلطخ كل جدران العاصمة !!
لقد وجدت صنعاء تنبض بالحيوية , وأسواقها مليئة بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين , وبأسعار منخفضة؛ قياسا بمثيلاتها في بقية مدن اليمن!
لا شيء في صنعاء يُشعرك بأن البلاد في حالة حرب, فالنساء يتجولن في الأسواق حتى ساعة متأخرة من الليل, والمدينة تظل مضاءة حتى طلوع الفجر!
والسكان قلما يتحدثون عن الحرب , بل ويُظهرون الرضا عن أحوالهم !
فهل هذه المؤشرات دليل على أنهم بخير؟
قطعا لا !
إن هذه المؤشرات خطيرة جدا, وهي علامات مؤكدة على إصابة معظم سكان صنعاء بمتلازمة
"ستوكهولم" والتي تتمثل في وقوع الأسير في غرام خاطفه؛ وإبداء التعاطف الشديد مع الجهة التي تأسره!
ومما يؤكد ذلك هو أني لم ألمس في صنعاء أيّ تعاطف مع ما يتعرض له سكان المدن التي يحاصرها الحوثيين؛ ولمست بدلا من ذلك شعور سكانها بالعزلة التامة؛ وكأنهم يعيشون في كوكب آخر!
ولست وحدي من رأى ولمس كل ذلك في صنعاء ؛ بل كل اليمنيين شعروا به؛ مما جعلهم يمتعضون بشدة من أهل صنعاء؛ غير أن مشاعرهم هذه سوف تتغير حين يدركون أبعاد الموقف..
في الحقيقة؛ إن سكان صنعاء واقعون تحت تأثير هذه المتلازمة؛ فهم عاجزون عن تقرير مصيرهم , وخائفون من التعرض للأذى بأيدي الحوثيين.
إنهم بؤساء, مستوحشون,يفتقدون الإحساس بالانتماء, يعانون بصمت من قسوة النزع من الجذور, غارقون في الألم النفسي؛ لكنهم لا يدركون ذلك؛ لأن غريزة البقاء تجعلهم_ رغما عنهم_ يُظهرون الإعجاب بخاطفيهم , ويتبنون مواقفهم!
وهم اليوم بأمس الحاجة لتلقي الدعم والمساندة من كافة أبناء الوطن..
إن صنعاء التي كانت على مدار التاريخ تستقبل كل اليمنيين باختلاف مشاربهم , تتقبلهم وتحتضنهم بالحب؛ واقعة اليوم في الأسر, وهي تنتظر الفارس الذي سيكسر طوق عزلتها , ويحررها من قيودها , ويعيدها إلى حضن أمها اليمن.