في اليوم التالي كانت وجهة سفرنا إلى سراقب ومعرة النعمان في جنوب محافظة إدلب، حيث لازالت قوافل المجاهدين تتقدم باتجاه حماة، لكن استعصت عليهم نقطتي قمحاني وهي قرية تشيّع أهلها قبل عقدين من الزمن أو أكثر ربما، وتقع على يمين مدخل مدينة حماة، بينما كانت العُقدة الثانية جبل زين العابدين الواقع على يسار القرية، وهو تلة عالية حاكمة للمدينة، وللطريق الرئيسي الواصل بين حماة وحلب، حيث تنتشر مليشيات عصابات أسد والمليشيات الإيرانية الموالية له.
في سراقب التي تمثل عقدة المواصلت بين حواضر سوريا، كان كل شيء يحكي قصص مغول العصر وكل عصر. لم يكن هناك باب ولا شباك، ولا سقف في البيوت المهجورة، فالكل قد انتزع من محله، ليتم بيعه في الأسواق، وقيل لنا بأن قوات العصابة الأسدية ومعها الإيرانية، كانت تقومان بعرض المدينة كلها على تجار حروب ليتعهدوها بمبلغ مقطوع يُدفع لقائد مليشيات المنطقة، مقابل نهب كل محتوياتها، بما فيها أسلاك الكهرباء وأنابيب المياه، وقضبان الحديد التي في سقوف البيوت.
هذا الواقع يشمل كل القرى التي سقطت محتلة بأيدي المليشيات الإيرانية خلال السنوات الماضية، فهل سمعتم عن هذا في عصر المغول والتتار وغيرهم من الغزاة الهمج؟! أما السكان فلا تجد أحدًا في البيوت، إذ كانت خاوية على عروشها تماماً، والريح تصفق في الشوارع والحارات والبيوت، فقرابة الخمسين ألف من سكانها تقريباً لا تجد بيتاً واحداً مسكوناً، وهو دليل واضح وعملي على تصويت الأهالي بأرجلهم هرباً من العصابات المغولية العصرية، الذين هاموا في مخيمات الشتات، ولا يزال الأهالي يتحدثون عن مقبرة لأهل سراقب شُيدت على الطريق الواصل بين تفتناز وآفس أطلق عليها مقبرة الجلطات، أي أن الكثير مات نتيجة نوبة قلبية وجلطة أصابته لتهجيره من سراقب، فيراها من بعد كيلومترات ولا يستطيع الوصول إليها سبيلاً خشية العصابات الإرهابية الإيرانية وعملائها.
نتقدم أكثر باتجاه مدينة معرة النعمان فنجد نفس الواقع السراقبي، فلا تجد عائلة واحدة تسكن فيها، بينما عدد سكانها ربما ضعف مدينة سراقب. الكل هجرها، وعلى مثلها يُقاس بلدات وقرى الريف المعري والريف السراقبي.. كان مركز المدينة قد ضج بالحركة النسبية بسبب وجود المجاهدين، وبعض موظفي خدمات النت الذين كانوا يحاولون استعادته، وكذلك استعادة الكهرباء، لتفعيل نشاط إدارة المنطقة، قادنا الأخ أبو سعد ابن المعرة البار في جولة سريعة على جامعها الكبير ومتحفها وضريح أبي العلاء المعري، والقشلة العثمانية الواقعة وسط المدينة، وهي الثكنة العسكرية العثمانية التي كانت مكلفة بحماية البلدة أيام الحكم العثماني.
كان كل شيء يصرخ بوجوهنا أن لا حياة هنا، فمن هنا مرّ مغول العصر وكل عصر، ولكن مع هذا كان أبو سعد وإخوانه يتحدّون هذا الصراخ بالعمل الدؤوب قائلين إننا نعمل على توفير أبسط وأدنى مقومات الحياة وذلك من أجل عودة الحياة النسبية للمهجرين، لعلهم يعودون إلى بيوتهم، مما يُنشط ويٌفعل الحالة المدنية في المعرة، فيتكاتف الجميع لاستعادة حياة المدينة الصاخبة التي كانت قبل مرور مغول العصر فوق أرضها.
طلبت أنا والأخ الفاضل الشيخ أنس عيروط من الأخ أبي سعد أن نزور بلدة دير شرقي الواقعة شرقي المعرة، حيث مدفن الخليفة الراشد الخامس والعادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وبالفعل اتجه معنا الأستاذ الفاضل جمال شحود من جرجناز، الذي شغل مناصب مهمة في الحكومة بإدلب، وهو وعائلته من العائلات المعروفة في جرجناز بملكية الأراضي منذ القديم.
في الطريق روى لي الأخ الأستاذ جمال شحود قصة عجيبة قبل تحرير مدينة معرة النعمان وجرجناز بيومين أو ثلاثة، فقال لنا: بداية الثورة كنت متزوج من سيدة جزائرية، وقررنا أن تسافر مع الأولاد إلى الجزائر، فتعود بعد انتصار الثورة، ظناً منا أن الأمر لن يعدو أشهراً، وبالفعل سافرت، ولم تعد منذ ذلك الحين، وأخيراً بعد أن بعد الفراق وشدنا الحنين، بدأت أدعو قبل أيام بحرقة وتضرع بأن يمنّ الله علينا بعودتها مع الأولاد، ثم طمعت في فضل الله فقلت يارب أن تمنّ علينا باللقاء في جرجناز محررة، ولكن بعد أن دعوته شعرت أن الطلب كان أكبر مما ينبغي، فخجلت من ربي، ولكن لم يمض سوى يومين أو ثلاثة حتى فتح الله علينا المنطقة!!
بعد هذا الحديث التقيت في اسطنبول الدكتور نصر الحريري فروى لي قصة مشابهة عن أخ مهجر أمي في اسطنبول قال له وبلغته العامية، لقد حكيت مع الله بالأمس، فقلت له يا رب والله لقد قدمنا كل ما نملك، قدمنا البيوت والأولاد، وقدمنا الأموال ولم يبق لدينا شيء، يا رب لماذا تدير لنا ظهرك؟! يا رب امنن علينا بنظرة وانصرنا على أعدائنا، فأقسم الرجل أن الفتح جاء بعد يوم تقريباً، لكن لم أتوقف، فحكيت معه بعد الفتح فقلت يارب لك علي ألاّ أطلب منك شيئاً لعشر سنوات مقبلة.
وصلنا إلى ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز، فوجدنا كما نشر في وسائل الإعلام يوم احتلاله عام 2019، وقد تم حرق المبنى الذي يرقد في الخليفة، وقيل لنا بأن عملية الحرق تمت بإشعال عجلات السيارات، حيث بدا الشحار الأسود على السقف والجدران، وحتى أن شواهد القبر قد انتزعت من مكانها، مما يشير إلى أن ما قيل يومها عن نبش القبر صحيحاً.
كانت عقدة قمحاني وزين العابدين قد بدأت بالحلحلة والتفكك أمام ضربات ثوار الشام، بعد أن أطبقوا على المنطقتين، ودارت في داخلهما معارك طاحنة، وشكل مختار قمحاني ظاهرة تحدي للإخوة المجاهدين، والمعلوم أن هذه المنطقة شكلت خزاناً بشرياً للقتال في صفوف المليشيات الإيرانية خلال فترة الثورة السورية، لكن فتح الله على المجاهدين، ومع فتح قمحاني وجبل زين العابدين بات الأمر ممهداً حتى حمص، لاسيما وأن الأهم من ذلك كله أن قواعد اتفاق استانة الذي يقف عند شمالي حماة قد كُسر اليوم، ولم يعد هناك مجال للاتفاقيات الدولية التي استهدفت الشعب ووجوده، الأمر الذي طمأنني وطمأن الكثيرين أن القصد بات دمشق كما بشّر بذلك الفاتح أحمد الشرع.