صنعاء عادت لتشهد بعضاً من أعنف الضربات الجوية التي يوجهها الطيران السعودي على أهداف تُوصف بالنوعية والمشروعة، وتشمل ورشاً لبناء وتركيب الطائرات المسيرة، ومخازن للصواريخ، حتى أن دار الرئاسة الواقعة جنوب مدينة صنعاء عاد ليصبح مجدداً عرضة لهجمات استهدفت مخازن ومدينة "تحت أرضية" تمتد بين القصر وجبلي النهدين، أنشأها الرئيس السابق علي عبد الله صالح في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي للتعامل مع الأزمات ولتلبية حاجاته الشخصية الأمنية المتوجسة .
أكثر ما يثير اهتمامي مع تجدد الضربات العنيفة هذه لأهداف في صنعاء؛ التصريحات السعودية المصاحبة والمتواصلة عن الأهداف المشروعة، في خطاب من المؤكد أنه موجه للغرب، وهدفه تلافي حملات مضادة؛ بات واضحاً أن أكثرها شراسة يجري تنظيمها بإشراف خلية الدعم والإسناد الإعلامي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتتردد أصداؤها في الدوائر الغربية، خصوصاً إذا صادف أن امرأة أو طفلاً سقط ضحية القصف، وأحياناً يجري استدعاء ضحايا. وهناك العشرات من أمثالهم يسقطون بأسلحة الحوثي وخبثه وحقده الطائفي في عدد من مدن اليمن .
التبريرات السعودية المتواصلة لا تفيد إلا معنى واحدا، وهو أن حرب السعودية الجوية لم تعد تندرج في إطار الأهداف التي تحدثت عنها الرياض منذ نحو سبع سنوات، خصوصاً تلك المرتبطة بدحر الانقلاب وإنهاء السيطرة العسكرية والسياسية لجماعة الحوثي المسلحة الموالية لإيران والمدعومة منها، والمندرجة في إطار مشروع طهران الجيوسياسي في المنطقة .
هذا يعني أن هدف استعادة الدولة وإعادة إطلاق العملية السياسية التي تُبقي الحوثيين مجرد طرف سياسي عليه أن يتكئ على وزنه السياسي وحظوظه الانتخابية؛ لم يعد هدفاً من أهداف الحرب، لا بل إن التعاطي مع الحوثيين كقوة أمر واقع لم يعد يقتضي من الجانب السعودي سوى التعامل الخشن مع التحديات العسكرية العابرة للحدود؛ والتي تنطوي عليها القوة الراهنة لهذه الجماعة المسلحة .
وعلى الرغم من خيبة الأمل الكبيرة من التدخل السعودي الإماراتي في الساحة اليمنية، والذي تحول إلى حرب موازية على مقدرات الدولة اليمنية وعلى وجودها وكيانها القانوني، إلا أن المرء لا يزال يجد فرصة تلوح في الأفق ويمكن أن تضمن الأمن الحيوي لليمن والسعودية معاً. وتتمثل هذه الفرصة بتصحيح الأخطاء وإعادة توجيه القوة الجوية لتتحول إلى أداة فتك بالإمكانيات العسكرية للحوثيين ومخازنهم وخطوط إمداداتهم، إلى درجة يتحقق معها التكامل الحقيقي بين أجزاء المعركة الميدانية والجوية .
جوقة الإسناد الإعلامي للحوثيين، وهي مؤثرة إلى حد أنها تبدو كخط إمداد حربي من طهران إلى بيروت مروراً بمناطق ودول النفوذ الإيرانية ومنها العراق وسوريا بالإضافة إلى تجمعات ديمغرافية طائفية تلغم الجسد العربي في شرق الجزيرة العربية والخليج العربي، لا تكل ولا تمل من تأكيد أن اليمن هو ذلك الذي يعيد الحوثيون تأسيسه ورسم ملامحه الطائفية الموتورة، وأن الحرب تدور رحاها بين اليمن الذي يمثله الحوثيون والتحالف الذي لا يعدو كونه طرفاً خارجياً معتدياً .
في الحقيقة لم يدع لنا هذا التحالف فرصةً ولا منطقاً للدفاع عنه، لأنه ببساطة كرّس نفسه خلال السنوات الفائتة من زمن الحرب غير واضحة الملامح هذه؛ كعدوٍ حقيقي ليس للشعب اليمني وإنما لدوله ولشعوبه، بدليل هذه الارتدادات الخطيرة للحرب على العمق الاستراتيجي لقائدة التحالف والتي تختلط فيها الأوراق، نتيجة التدخل المعلن والخفي من جانب إيران التي وجدت فرصة سانحة للنيل من عدوها اللدود باسم الحوثيين .
الأهداف العسكرية التي يستهدفها الطيران السعودي هذه الأيام في صنعاء وفي غيرها؛ لا ينبغي أن تكتسب مشروعيتها من كونها تهدد العمق السعودي، بل يجب أن تشمل أيضاً وبالقدر نفسه، الأهداف المتعلقة بحرب الدولة اليمنية ضد الحوثيين، ومنها تجمعات المسلحين، والآليات المتحركة عبر خطوط الإمداد الطويلة من صنعاء إلى جبهات الحرب، والتي لا تزال ترجح كفة الحوثيين كونها تشير إلى مخزونهم الكبير الذي تركه علي عبد الله صالح (عفاش)، وأشار إليه ذات مداخلة تلفزيونية بالقول: "مخزون عفاش يعجبك"، في سياق التباهي بقدرته على مواصلة الحرب استناداً إلى قدراته التسليحية المكدسة في مخازن صنعاء وجبالها وأقبيتها وأنفاقها .
ستبقى الحرب السعودية في اليمن عرضة سهلة للاستهداف من قبل المنظومة الإيرانية، وعرضة بالقدر نفسه لابتزاز القوى الغربية، والأسوأ أن تتحول تدريجياً إلى " عدوان" ضد الشعب اليمني. كما يتطلع إلى ذلك الحوثيون وداعموهم الإيرانيون، طالما بقيت محصورة في نطاق الأولويات الأمنية والأنانية قصيرة النظر للسعودية، ولم تتوسع لتشمل الأبعاد الاستراتيجية والجيوستراتيجية التي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار بقاء اليمن دولة عربية كاملة السيادية مستقلة القرار، متكاملة الأهداف مع عمقها العربي .
ودعوني أشير هنا إلى جانب من السلوك الكارثي لهذا التحالف بقيادة السعودية، فهو اليوم يكرس حالة غير مستحقة من العجز لدى حلفائه عن المبادرة وعن إدارة عملية عسكرية مستقلة وكفؤة، ومتصلة بالإمدادات التسليحية والتموينية، وبالثقة الكاملة بقدرتها على مواصلة القتال دون غدر أو خديعة، كما يحدث في أكثر من جبهة .
وها هو يواصل دعم القوى المناهضة للدولة والمعادية للوحدة اليمنية، ويواصل تحريك القوى العسكرية التي تقاتل بالوكالة من جبهة إلى أخرى، ولديها تصور مشوه بأنها إنما تقاتل أعداء العقيدة أو تسدي خدمة للأشقاء في أراضي دولة مجاورة، مما يهوي بمهام هذه القوات إلى درجة سحيقة من العبث، بالقياس إلى حجم التضحيات التي تبذلها هذه القوات دون نتائج عسكرية واضحة، كما جرى ولا يزال يجري حتى اليوم في الساحل الغربي لمحافظة الحديدة، وجرى قبل ذلك بشأن قوات الجيش الوطني العتيدة والشجاعة التي وصلت إلى المشارف الشرقية للعاصمة صنعاء قبل أن يتم التخلي عنها والغدر بها .
إن التحولات الخطيرة في المواقف الإقليمية والدولية، وهذا التموج في الأحداث يفرض على الأطراف العربية في حرب اليمن أن تعيد النظر في نهجها أو تدع الشعب اليمني يواجه أعداءه، لكن بضمانة أكيدة بأن لا تتحول هذه الدول إلى مصدر إمداد لهؤلاء الأعداء؛ كما فعلت في 2014 عندما شجعتهم على تقويض العملية السياسية ضمن خطة لإجهاض ربيع اليمن والقضاء عليه، فحصدت كل هذه الخيبة والخسران .