;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة التاسعة والخمسون 864

2008-11-03 03:29:29

المؤلف/ علي محمد الصلابي

كما أنه لم يعد المحرك السياسي للدولة بعد وفاة صلاح الدين، فقد تقسمت الدولة وتقسم العمل الذي كان يقوم به زمن صلاح الدين بين أشخاص عديدين، بينهم أشخاص لم يكن راضياً عن تصرفاتهم، زمن تنفذه، كصفي الدين بن شكر وزير الملك العادل، وضياء الدين وزير الملك الأفضل، الذي حاول أن يبعده عن أصحاب أبيه ومستشاريه منذ البداية، ولقد أدرك القاضي الفاضل نهاية مسيرته بوفاة صلاح الدين، وعبر عن مشاعره ببعض رسائله الإخوانية، يذكر في إحداها: وقد تبرمت بالحياة، فبعد أن كنت ممن أخدمه بمكان العين صرت بمكان القذاة، والأعمار أكثرها الأكدار إلا إن أشدها مؤونة ما كان في أواخر المدد حيث يكون المرء في أواخر الجلد.

ويمكن القول أنه تبدد بوفاة صلاح الدين حلم كبير كرس القاضي الفاضل له قسطاً كبيراً من حياته، فقد تقسمت البلاد التي طالما سعى لتوحيدها وتقويتها بين أبناء صلاح الدين الذين راحوا يتنافسون في شأنها ويتناحرون مدفوعين بأنانيتهم مغفلين أمر العدو الرابض على حدودهم، فراح يدعوهم إلى التحالف ويحاول التقريب بينهم، ولم يترك مناسبة تمر دون أن يذكرهم بضرورة توحيد الصف " فكتب للملك الظاهر بن صلاح الدين ضمن رسالة عزاء بوالده يقول: وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما فقدتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلية أهونها موته وهو الهول العظيم، وقد قام القاضي الفاضل بدور في الصلح بين العزيز عثمان ابن صلاح الدين ملك مصر، والأفضل ابن صلاح الدين ملك الشام ، وعمل على شد أزر العادل أبي بكر أخي صلاح الدين، أكبر أقارب صلاح الدين وأكثرهم خبرة لكي يقف وقفات صامدة كأخيه ضد الخطر الصليبي فكتب له في إحدى رسائله سنة "593ه/1196م": وما تجدد من وصول العدو اللعين إلى جانب بيروت وخطر البلاد ما أذهل كل مرضعة وأوقع في ضائقة تنفق الأفكار فيها من سعة، وللإسلام اليوم قدم وإن زلت زل، وهمة وإن ملت فإن النصر منه مل، وتلك القدم قدم العادلية وتلك الهمة الهمة السابقة السيفية، فالله الله ثبتوا ذلك الفؤاد ودقوا ذلك المهاد، واسهروا في الله، فليست بليلة رقاد، ، ولا ينظر في حديث زيد ولا عمرو، ولا أن فلاناً نفع وضر، ولا أن من الجماعة من جاء ولا أن فيهم من مر أنظروا على أنكم الإسلام كله برز إلى الشرك كله، وأنكم ظل الله ، فإن صممتم تلك النسبة فإن الله لا ناسخ لظله، واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تهونوا، وإن ذهب الناصر فإن الله خير الناصرين، فما هي إلا غمرة وتنجلي وهيعة وتنقضي، وليلة وتصبح، وتجارة وتربح.

لكنه شاهد بعض المدن تسقط ثانية في يد الفرنج، فراح يتحسر على انفراط العقِد الذي جمعه مع صلاح الدين، ويزداد يأساً وانعزالاً وكان للأمراض التي تراكمت على القاضي الفاضل أثر في ابتعاده عن الجو السياسي، فقد كان ضعيف البنية كثير المرض، وكان هذا يؤخره عن الاشتراك في بعض الغزوات عندما كان صلاح الدين حياً، وفي رسائله كثير من الإشارة إلى مرضه وضعفه اللذين ازدادا بعد وفاة صلاح الدين، وقد ذكر في إحداها إلى صديقه العماد الأصفهاني قوله: وسيدنا يعلم كيف حال الكبير إذا فقد الصغير، والضعيف المتثاقل إذا نودي للنفير، ما كأني عرفت الأيام، إلا في هذه الأيام، ولا كأن الدنيا لبستها إلا على أن يخلعني الحمام، فقد توقعت أمر الله يطرقني بياتاً وأنا نائم، أو ضحى وأنا هائم، كما كتب إليه في إحدى رسائله يصف حالته الجسمانية قائلاً: وأصدرت هذه الخدمة ورجلاي قد عام النقرس إلى تقييدهما وتصفيرهما بالألطخة وتسويدهما، جنبي طريح، وما في صحيح إلا سقمي فإنه صحيح وإذا خلوت إلى شيطان المرض أصيح.

وكتب إليه رسالة أخرى قائلاً: وأما أحوالي في جسمي فلا تسأل عن تداعي البنية، المفاصل مذهبة، والأسنان مضمدة، والنقرس يلغي، وزيادة كالنقص زيادة العصا في ظلي.

ووصف أوجاعه في آخر حياته للعماد أيضاً بقوله: وأخلاق الغلمان وما ادراك ما هي نار حامية، وقد صرت أرى الصبر على الضرورة أولى من الابتلاء بهم في الخدمة، فأجوع ولا أقول أطعموني، وأظمأ ولا أقول اسقوني، وألقيت بيدي وقلت مروا، ومددت رجلي وقلت جروا.

10- وفاته:

توفي القاضي الفاضل بعد كل هذه الآلام الجسمية والمعنوية في السادس من ربيع الأول "596ه/1199م".

قال العماد الأصفهاني في حوادث هذه السنة ناعياً إياه: تمت الرزية الكبرى والبلية العظمى وفجيعة أهل الفضل بالدين والدنيا، وذلك بانتقال القاضي الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء في داره بالقاهرة، وذكر في وفاته أنه عمل ليلة العشاء السابقة لوفاته في مدرسته، وجلس مع الفقيه ابن سلامة مدرسها وتحدث مع ما شاء وشوهد من كل ليلة أبش وأبسم وأهش، وقد طابت المحاضرة وطالت المسامرة وانفصل إلى منزله صحيح البدن فصيح اللسان، وقال لغلامه: رتب حوائج الحمام وغرفتي حين أفضى مني المنام، فوافاه سحراً للإعلام، فما اكترث بصوت الغلام، ولم يدر أن كلم الحمام حمى من الكلام، وأن وثوقه بطهارته من الكوثر أغناه من الحمام، فبادر إليه والده فألفاه وهو ساكت باهت، فعرف أن القدر له باغت، فلبث يومه لا يسمع له إلا أنين خفي علم منه أنه بعهد الله وفي، ثم قضى سعيداً، وعلق عماد الدين الأصفهاني على وفاته بقوله: ومضى شهيداً حميداً، فوفاه الله تعالى الوصية، فكانت له بسيد الأولين والآخرين أسوة، وإن تردى عن ردء العمر فله من حلل البقاء في عليين كسوة ، ولأنه لم يبق في مدة حياته عملاً صالحاً إلا قدمه ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه، ولا عقداً في البر إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرقاب، وأوقافه على سبل الخيرات متجاوزة على السحاب لاسيما أوقافه لفكاك أسرى المسلمين إلى يوم الحساب، وأعان طلبة الشافعية والمالكية عند داره بالمدرسة والأيتام بالكتاب، والخيرات الدارة على الأيام، فكانت له حياة ثانية إلى يوم البعث وإعادة حياة الأنام، إلى أن قال: والسلطان رحمه الله - أي صلاح الدين - من مفتتحات فتوحه ومختتماتها، مبادئ أمور دولته وغاياتها، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد إلا وآرائه،ومقاليد غناه وغنائه.

ثانياً: الحافظ السلفي:

هو الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني، وهو من علماء المشارقة الذين هاجروا إلى مصر واستقروا بالإسكندرية ونفع الله بهم نفعاً عظيماً في نشر مذهب أهل السنة.

1- قدومه إلى الإسكندرية:

نزل السلفي الإسكندرية سنة "511ه"، وكان عمره قد بلغ السادسة والثلاثين عاماً، وكان تجمع لديه خبرات واسعة وحصل على علم وفير، وبلغ من النضج الفكري والتخصصي في ميدان علم الحديث مبلغ العلماء المتخصصين، فهو قد رحل إلى بلاد كثيرة، فأتيح له أن يلتقي بأعداد كثيرة من العلماء وكبار المحدثين أتقن على أيديهم الرواية وقواعد التحديث وعلوم المصطلح، وانتخب من كتبهم كثيراً من المختارات الجيدة والفوائد النادرة، ونسخ بخطه السريع الأجزاء الكثيرة، وكان أيضاً ذا خبرة وتجربة في الكتابة والتأليف فقد سبق له أن ألف معجماً لشيوخه في أصبهان، ومعجماً آخر لشيوخه في بغداد.

وكانت له دراية سابقة بالتحديث والتعليم، فهو قد زاول ذلك فعلاً في أوائل سنة "492ه" في بلده بأصبهان.

وكذلك أثناء إقامته في دمشق حيث اشتغل بالتدريس من سنة "509ه" إلى "511ه" ولم تكن ثقافة "السلفي" حين قدومه مقتصرة على الحديث وحده، وإنما كان أيضاً فقيهاً على مذهب الإمام الشافعي فهو قد درس الفقه في نظامية بغداد على يد شيخه ألكيا الهراسي وفخر الإسلام الشاشي ويوسف ابن علي الزنجاني، وكان السلفي أيضاً متقناً لعلم القراءات عارفاً بحروفها ووجوهها، قد تتلمذ في ذلك على علماء القراءات المشهورين في عصره، يقول الذهبي: نقلت من خط الحافظ عبدالغني المقدسي نقل خطوط المشائخ للسلفي بالقراءات وأنه قرأ بحرف عاصم، على أبي سعد المطرز، وقرأ برواية حمزة، وقرأ برواية قنبل على عبدالله بن أحمد الخرقي، وقد قرأ على بعضهم في سنة "491ه" وفضلاً عن إلمام السلفي بالحديث ومعرفته بالفقه وعلم القراءات قبل أن يستقر في الإسكندرية، فقد كان ملماً أيضاً بالأدب واللغة العربية فقد درس ذلك كله أيام كان في بغداد على يد العالم اللغوي المشهور أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي شيخ الأدب في "النظامية" وكان شاعراً ينظم الشعر ويتذوقه ويحب سماعه ويختم كل مجلس من مجالسه التي أملاها على طلاب الحديث في سلماس بأبيات من شعر الحكمة النصية أحب السلفي الإسكندرية وأهلها، فقد أكرموا وفادته، ورأى أنها المكان المناسب لإقامته حيث يمكنه فيها أن يفيد ويستفيد، فأقلع - مؤقتاً - عن نية مغادرتها إلى بلاد الأندلس، وقرر أن يتخذها دار إقامته، ولو إلى حين وكان قراره هذا يرجع في حقيقته إلى عدة أسباب بالإضافة إلى إكرام وحب أهل الإسكندرية له - منها ما يلي:

- موقع الإسكندرية الجغرافي المتوسط لبلدان العالم الإسلامي - وبخاصة بين الحجاز في المشرق وبين المغاربة والأندلس في المغرب - جعلها أشبه بملتقى الحجاج الأندلسيين والمغاربة الذين كانوا يستريحون فيها من وعثاء السفر أياماً، أثناء توجههم إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكذلك أثناء عودتهم منه إلى بلادهم، فكانوا ينتهزون فرصة استراحتهم فيها فيلتقي علماؤهم وأدباؤهم بعلمائها وأدبائها فيسمعون ويسمعون منهم، ويتبادلون معهم ضروباً من المعرفة والثقافة فيفيدون ويستفيدون.

- كانت الإسكندرية في مطلع القرن السادس الهجري ملتقى كثير من علماء الشام الذين كانت بلادهم مسرحاً للحروب الصليبية، والتي سقط بعض مدنها في أيدي الصليبيين كالقدس والرملة وكثير من مدن الساحل الفلسطيني، مما اضطر أولئك العلماء إلى هجرتها والنزوح عنها. <

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد