المعاصرة. .
مشروع أميركي لا يستثنى من مكاسبه الكثير من البلدان النامية
والغالبية العظمى من دول القارة الأفريقية فحسب، بل ويرمي إلى العودة بالعالم إلى
العصر الاستعماري وترسيخ الهيمنة على خيرات الشعوب، من خلال السيطرة على الموارد
البترولية في العالم والهيمنة على حقوق براءات الاختراع والملكية الفكرية، والتحكم
بوسائل الاتصال الدولة، واحتكار
إنتاج البذور الزراعية المعدلة جينياً، باعتبار أن احتكارها يمكن الولايات المتحدة
الأمريكية من السيطرة على أنتاج المواد الغذائية في العالم أجمع.
. يتناول هذا
الكتاب تحليل قضية العولمة من منظور عقلاني شامل يحيط بها من مختلف أبعادها ومن
منظور إنساني إذ عالج الأبعاد المختلفة للعولمة وما صاحبها من تدهور مستوى المعيشة
وأتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء وتقليص دور الدولة في مجال الخدمات، كما تتميز
بالدفاع عن العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
الكتاب الذي ترجمة
الدكتور/ عدنان عباس علي والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت
قدم مؤلفاه "هانس بيتر مارتين وهارالدشومان " وجهة نظر مختلف عما هو شائع من
الأحاديث والأفكار الملتهية حول العولمة والتي تدور الآن بين المثقفين العرب.
لم
تفهم الأمور على حقيقتها على ما يبدو فالنقاش لا يدور حول التضحيات الضرورية الواجب
على الجميع تحمل أعبائها في عصور الأزمات والشدة فوسائل من قبيل تخفيض الأجر في
حالات المرض وإلغاء الحماية التي يتمتع بها العمل ضد الطرد التعسفي والتخفيضات
الكبيرة في الإنتاجية باطراد، ليست وسائل القصر منها مواجهة أزمة اقتصادية
عابرة.
فما يطالب به الإصلاحيون لمواجهة العولمة هو في واقع الحال التخلي كلية
عن العقد الاجتماعي الألماني غير المكتوب الذي أبقى من خلال إعادة توزيع المداخيل
من الفئات العليا لمحصلة الفئات الدنيا اللامساواة الاجتماعية حدود معقولة، أنهم
يدعون أن النموذج الأوروبي لدولة الرفاهية قد أكل الدهر عليه وشرب وأنه قد صار
مشروعاً باهظ التكاليف مقارنةً بما هو سائد في بلدان العالم الأخرى.
أما
المعنيون بهذه التوجهات فقد فهموا الأمر على حقيقته حيث استنكرت النقابات العمالية
ومؤسسات الرعاية الاجتماعية في كل أنحاء الجمهورية الألمانية هذه التوجهات فحتى
نقابة العاملين في الصناعة الكيميائية المعروفة عادة باعتدالها في المطالب قد صارت
تهدد بإضراب عام يعم جميع ألمانيا كما هدد "ديتر شولته" رئيس الاتحاد العام
للنقابات العمالية ب"اتخاذ مواقف" ستبدو حيالها الإضرابات العمالية الفرنسية في
ديسمبر من عام 1995م "بداية مترددة مجهدة".
ولكن على الرغم من كل هذه التهديدات
فإن المدافعين عن دول الرفاهية مغلوبون على أمرهم بلا مراء وإن كان الكثير من حجج
خصومهم عارياً من الصحة، فالمؤسسات الصناعية الألمانية لا تخلف في البلدان الأجنبية
فرص عمل جديد كثيرة عندما تشتري ملكية المؤسسات الصناعية هناك وتزويد هذه الأسواق
بما تحتاج إليه من سلع فهي سرعان ما تبدأ هناك أيضاً بإعادة هيكلة هذه المصانع
وتسريح أعداد غفيرة من العاملين بها كذلك ليس صحيحاً القول بأن التكاليف الاجتماعية
قد ارتفعت ارتفاعاً انفجارياً فنسبتها إلى الناتج القومي الإجمالي كانت في عام
1995م، أدلى مما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً الأمر الصحيح من جمله هذه البراهين
هو البرهان الذي يوجه الأنظار إلى السياسة التي ينتهجها الآخرون أو بتعبير أدق،
السياسة التي تنتهجها البلدان الصناعية المعاصرة فمن السويد مروراً بالنمسا وحتى
إسبانيا فإن جوهر النهج المتبع هو أحد طرق تخفيض الإنفاق الحكومي والأجور
والمساعدات الاجتماعية ، وإذا كان المنهاج المتبع متشابها في كل هذه البلدان فإن
ردود الفعل هي أيضاً متشابهة في كل مكان، استنكار لا جدوى منه ومن ثم إحباط
واستسلام للمقادير.
أن الاهتمام بأمر العاطلين في جسم المجتمع على عاتق المبادرة
التي يقوم عادة الأفراد في مساعدة بعضهم للبعض الآخر طواعية كالمساعدات التي
يقدمها الجيران لجيرانهم والمؤسسات الرياضية لأعضائها والنوادي بمختلف أنواعها
لأفرادها.
وحسب رأي الأستاذ الجامعي روي فإنه بالإمكان الإعلاء من شأن هذه
المساعدات وذلك من خلال دفع مبلغ بسيط من المال نقداً حفاظاً على كرامة هذه
الملايين من المواطنين، وكيفما كانت الحال يتوقع المهيمنون على مصائر الاتحادات
الصناعية أفراداً ينظفون الشوارع بالسخرة أو يعملون خدماً في المنازل قصد الحصول
على ما يسد الرمق.
ويحلل العالم المختص بشؤون المستقبل "جون نايزبت" واقع
المجتمعات الصناعية ويتوصل إلى نتيجة مفادها أن عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه
هذا العصر من مستوى معيشي مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى "حدث عابر في التاريخ
الاقتصادي".
لقد ضمن منظمو هذه الأيام الثلاثة في فيرمونت التي ستبقى خالدة في
ذاكرة التاريخ أنهم على أبواب حضارة جديدة إلا أن الحقيقة هي على خلاف ذلك،
فالاتجاه الذي تومئ إليه هذه العقول الرائدة في مجال الصناعة والمال والعلم ينتقل
بنا مباشرة إلى عصر ما قبل الحداثة إذ لم يعد مجتمع الثلثين "الأثرياء والثلث
الفقير" الذي كان الأوربيون يخافون منه في الثمانينات هو الذي يقرر توزيع الثروة
والمكانة الاجتماعية بل سيحددهما في المستقبل حسب ما يقوله هؤلاء النموذج العالمي
الجديد القائم على صيغة 20 % "يعملون" و 80% "عاطلون عن العمل" لقد لاح في الأفق
حسب رأيهم مجتمع الخمس هذا المجتمع الذين ستعين في ظله تهدئة خواطر العاطلين فيه عن
العمل بما يسمعونه ولكن هل كانت هذه التنبؤات مجرد إسراف ومغالاة؟ أكثر من "40" ألف
شركة ابتزازية لقد صارت الأممية التي كانت فيما مضى من الزمن الشعار الذي اخترعه
القادة العماليون في الحركة الاشتراكية الديمقراطية ليواجهوا به تجار الحروب
الرأسماليين صارت شعار الطرف الآخر منذ أجل ليس بالقصير ففي الساحة العالمية هناك
ما يزيد على 40 ألف شركة أممية من كل الأحجام تبتز هذا العامل بالعامل الآخر وهذه
الدولة بالأخرى وذلك من باب: ماذا؟ أتفرض ألمانيا في المائة فقط وهي راضية كل الرضا
أما ماليزيا أو بعض الولايات الاتحادية الأمريكية فإنها تتخلى من مثل هذه الضريبة
في الأعوام الخمسة أو العشرة الأولى لبدء إنتاج المشروعات وماذا عن أجر العامل
الغني؟ 45 ماركاً؟ أنه أجر مرتفع جداً فالبريطانيون يعملون بما يقل عن النصف
والتشيك بعشرة فقط و33 في المائة فقط هو مقدار الدعم الذي تقدمه إيطاليا
للاستثمارات في المصانع الجديدة نسبة قليلة جداً، ففي ألمانيا الشرقية تمنح الدولة
وهي راضية كل الرضا 80 في المائة.
إن أممية رأس المال الجديدة تقتلع دولا
بمجملها وما تقوم عليه هذه الدول من أنظمة اجتماعية من الجذور فمن ناحية هي تهدد
مرة هنا ومرة هناك بهروب رأس المال لكي تجبر الحكومات على تقديم تنازلات ضريبية
عظيمة ومنح تبلغ المليارات أو إقامة مشروعات بنية تحتية لا تكلفها شيئاً وحيثما لا
يجدي التهديد نفعاً فإنها تساعد نفسها بوضع خطط ضريبية على مستوى عال جداً:
فالأرباح لا تعلن إلا في تلك البلدان التي يكون فيها معدل الضريبة منخفضاً فعلاً
وهكذا انخفضت على المستوى العالمي النسبة التي يشارك بها أصحاب رؤوس المال والثروة
في تمويل المشاريع الحكومية أما من الناحية الأخرى فإن الموجهين للتدفقات العالمية
لرأس المال يخفضون باستمرار مستوى أجور عمالهم الدافعين للضرائب الحكومية الأمر
الذي ترتب عليه انخفاض حصة الأجور من الدخل القومي على المستوى العالمي هذا ولا
توجد دولة بوسعها أن تتخلص بمفردها من هذه الضغوط أما بالنسبة إلى النموذج الألماني
فإنه حسب ما يقوله عالم الاقتصاد الأمريكي "روديجر دورن بوش": سيطبخ وسيذوب شحمه
بكل معنى الكلمة في المنافسة الدولية للشركات عابرة القارات.
وفي حين ترتفع
أسعار الأسهم وأرباح المؤسسات بنسب تبلغ عشرة في المائة وأكثر تنخفض أجور العاملين
ورواتب المستخدمين.
وفي الوقت نفسه تتفاقم البطالة بشكل مواز للعجز في الموازنات
الحكومية وليس المرء في حاجة إلى أن يكون مطلعاً على نظريات اقتصادية معقده لفهم ما
يحدث فعلاً فبعد 113 سنة من وفاة "كارل ماركس" تتخذ الرأسمالية ذلك المنحى الذي
وصفة هذا الاقتصاد الثوري بالنسبة إلى زمانه وصفاً دقيقاً فعلاً، حينما راح يقول
"إن الإنتاج الرأسمالي لا يميل في العموم إلى رفع متوسط مستوى الأجور إنما يميل إلى
تخفيضه أو إلى الضغط على قيمة العمل إلى أدنى مستوى، وهو حينما أعلن رأيه هذا أمام
المؤتمر العام الدولي الأول في لندن عام 1865م ما كان يعلم أن الرأسمالية في طابعها
الأول ستطعم في يوم من الأيام القادمة بالروح الديمقراطية، ولكن ومهما كانت الحال
فبعد الإصلاحات التي تمت في قرن سادته أفكار الاشتراكية الديمقراطية تلوح في الأفق
حركة مضادة ذات أبعاد تاريخية أنها تتمثل في رسم صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي
السحيق وفي هذا المنظور لا عجب أن يعلن "هابنرشن فون بيرر" رئيس المؤسسة العالمية
"سيميز" بلهجة من ربح المستقبل وأنتصر "لقد تحولت رياح المنافسة إلى زوبعة وصار
الإعصار الصحيح يقف على الأبواب".
ولا ريب في أن "بيرر" وغيره من رافعي راية
العولمة إنما يحاولون بما يختارون من عبارات وصور الإيحاء بأن الأمر يتعلق بحدث
شبيه بالأحداث الطبيعية التي لا قدرة لنا على ردها والوقوف بوجهها أي أنها نتيجة
حتمية لتطور تكنولوجي واقتصادي ليس في وسعنا إلا الإذعان له والواقع أن هذه ليست
إلا ثرثرة، فالتشابكات الاقتصادية ذات الطابع العالمي ليست حدثاً طبيعياً بأي حال
من الأحول إنما نتيجة حتمية خلفتها سياسة معينة بوعي وإدارة فالحكومات والبرلمانات
هي التي وقعت الاتفاقيات وسنت القوانين التي ألغت الحدود والحواجز التي كانت تحد من
تنقل رؤوس الأموال والسلع من دول إلى أخرى، فرجالات الحكم في الدول الصناعية
الغربية هم الذين خلقوا ابتداء من تحريرهم المتاجرة بالعملات الأجنبية وعبر
الأسواق الأوروبية المشتركة وانتهاء بالتوسع المستمر واتفاقية التجارة العالمية
المسماة "الجات" بانتظام الحالة التي يعجزون الآن عن معالجتها.