فاضل
الربيعي
الربيعي
أثار الدخول المفاجئ للتيار الصدري بقيادة الشيخ
مقتدى الصدر على خط الأزمة في صعدة اليمنية، وإعلان الناطق باسم التيار عن وساطة
لوقف القتال بين الحوثيين وحكومة صنعاء، الكثير من الأسئلة الحائرة التي قد لا تجد
لها أي جواب مقبول، خارج دائرة تفسير وتحديد العوامل والأبعاد الإقليمية للأزمة
المتفجرة والمتصاعدة؛ وبوجه الخصوص خارج نطاق التجاذب شبه العلني في استراتيجيات
طهران والرياض حيال القضايا والسياسات في المنطقة ككل.
بيد أن أكثر ما أثار حيرة المراقبين ودهشتهم من الإعلان عن
هذه الوساطة إنما كان الكشف عن وجود مكاتب رسمية للحوثيين في النجف، بزعم رعاية
أوضاع جماعات يمنية صغيرة قدمت للدراسة الدينية، فهل ثمة أي نوع من الترابط بين
الحالتين العراقية واليمنية، بما يستدعي ويتطلب مسارعة الصدريين إلى تقديم أنفسهم
في صورة الوسيط النزيه؟ وهل يمتلك التيار الصدري بالفعل مؤهلات الاضطلاع بدور
إقليمي كبير من هذا الطراز؟ وأخيراً، ما بالضبط المغزى السياسي لانتقال التيار من
«طرف محلي» متهم -برأي خصومه العراقيين- بإثارة المتاعب، إلى وسيط إقليمي قادر على
حل عقد سياسية عويصة مثل «عقدة صعدة»؟ إن تحليل مضمون هذه الوساطة (التي لم يُكتب
لها النجاح حتى الآن بعد قرار الرئيس اليمني علي عبدالله صالح مواصلة الحرب) يتطلب
تقديم منظورين متوازيين: أولاً: رؤية التحول في تركيبة وسياسات التيار الصدري، وهو
تحول مثير للاهتمام بدأ في مرحلة اختفاء الصدر عن المسرح السياسي العراقي قبل نحو
عامين ووصوله إلى قم للدراسة.
وعلى وجه الخصوص رؤية الإطار الجديد الناظم
لتحالفاته وخياراته السياسية غير المسبوقة التي تعيد تقديمه اليوم كتيار سياسي،
تخلى عن السلاح وتحول إلى «جماعة ثقافية- دينية».
ثانياً: رؤية الترابط في أزمات
المنطقة، الإثنية والمذهبية والسياسية، وعلى وجه الخصوص الترابط بين الحالتين
العراقية واليمنية، وبوصف هذا الترابط كجزء عضوي من ترابط أعم يشمل العديد من
البلدان المطلة على الساحل الطويل للبحر الأحمر، وصولاً إلى سواحل البحر الأبيض
المتوسط (أي من الصومال واليمن والعراق إلى لبنان...
إلخ) وبما يجعل من هذه
الأزمات مجتمعة، كما لو أنها أزمة واحدة كبرى، راحت تتجلى داخل كل بلد عربي في
صورتها «المحلية» المناسبة والمتوافقة مع الأوضاع والمعطيات الخاصة.
فيما يتصل
بالمنظور الأول، يجب أن نلاحظ أن تطورات هائلة حدثت خلال السنتين المنصرمتين على
تركيبة التيار الصدري، القيادية والهيكلية التنظيمية ككل.
إن واحداً من أكثر
المظاهر الدّالة على حدوث هذا التحول، اختفاء الذراع المسلحة للتيار والمسماة جيش
المهدي من المشهد السياسي الراهن، وتراجع الاعتماد على «استراتيجيات المواجهة
العنيفة» التي كان التيار الصدري ينتهجها مع كل الأطراف المتناقضة (الاحتلال
الأميركي، أعضاء النظام السابق، الحوزة في النجف، الحكومة، المجلس
الأعلى...
إلخ).
لكن أكثر المظاهر الدالة على عمق هذا التحول، يمكن رؤيتها في
النهج الجديد الذي اختطه التيار لإعادة تركيب تحالفاته في الساحة العراقية.
لقد
انتقل من مرحلة «التحالف والصراع» مع حزب الدعوة (وبشكل أخص مع المالكي وضده
واستطراداً الصراع ضد المجلس الأعلى ومرجعية السيستاني في النجف) إلى مرحلة التحالف
المكشوف مع خصوم الأمس المجلس الأعلى والمرجعية، ضد الحليف القديم حزب
الدعوة.
إذن، باختفاء الذراع المسلحة واستراتيجيات المواجهة كلياً، وبصورة مطردة
من أدبيات التيار وسياساته في حقبة ما بعد مقتدى الصدر المتفرغ للعلم الديني في قم
الإيرانية، يكون التيار الصدري قد حسم خياراته في هذه المرحلة، وتهيأ للانتقال إلى
دور سياسي يراد له أن يتخطى حدود الساحة العراقية.
ولنلاحظ أوجه الشبه بين تحول
التيار إلى تيار ديني- مذهبي بغطاء سياسي، كل أهدافه -كما يقول قادته الجدد- إنما
تنحصر في التثقيف الديني ونشر العقيدة، وبين إعلان زعيم الحوثيين على شبكة الإنترنت
عن أهداف جماعته التي تنحصر في التثقيف الديني ونشر الدعوة الإسلامية، أي: أن تحول
الجماعتين الصدرية في العراق، والحوثية في اليمن إلى «جماعتين ثقافيتين» بحسب ما
يتردد في أدبياتهما الإعلامية اليوم، هو الرابط الذي يمكن أن يجعل منهما فعلياً،
جماعة دينية واحدة تتجلى في بلدين، ولكن بأشكال مناسبة ومتلائمة مع الأوضاع الخاصة
لكل بلد.
إن الفروق المذهبية في الاجتهاد عند الزيديين اليمنيين و «الاثنا
عشرية» الصدريين، قد تبدو غير ذات أهمية، ولا ينبغي التركيز على أية قيمة محتملة
لها في سياق المشتركات المذهبية الكبيرة.
وفي هذا الإطار، يجب توقع حدوث تحول
مماثل داخل الجماعة الحوثية، قد تتخلى فيه عن «ذراعها المسلحة» تماماً كما فعل
التيار الصدري، حين أنهى اشتباكه العنيف في البصرة مع المالكي (ما يعرف بحملة صولة
الفرسان) بتسريح جيش المهدي وتفكيك منظومته المسلحة.
ولسوف تبدو الحملة الشرسة
على معاقل الحوثيين في صعدة، ومن زاوية التشابه الجزئي وحسب في ظروف الصدام بين
الجماعة الشيعية العراقية ومثيلتها الجماعة الشيعية اليمنية، كما لو أنها مجرد وجه
آخر وفي مكان آخر، لمعركة واحدة وقعت مرة في البصرة العراقية وقادها المالكي ضد
الصدريين، وهي تقع اليوم في صعدة اليمنية ضد الحوثيين ويقودها الرئيس علي عبدالله
صالح.
في الحالتين، ثمة صراع يتخطى حدوده المحلية.
مفكر وكاتب عراقي -العرب
القطرية
مقتدى الصدر على خط الأزمة في صعدة اليمنية، وإعلان الناطق باسم التيار عن وساطة
لوقف القتال بين الحوثيين وحكومة صنعاء، الكثير من الأسئلة الحائرة التي قد لا تجد
لها أي جواب مقبول، خارج دائرة تفسير وتحديد العوامل والأبعاد الإقليمية للأزمة
المتفجرة والمتصاعدة؛ وبوجه الخصوص خارج نطاق التجاذب شبه العلني في استراتيجيات
طهران والرياض حيال القضايا والسياسات في المنطقة ككل.
بيد أن أكثر ما أثار حيرة المراقبين ودهشتهم من الإعلان عن
هذه الوساطة إنما كان الكشف عن وجود مكاتب رسمية للحوثيين في النجف، بزعم رعاية
أوضاع جماعات يمنية صغيرة قدمت للدراسة الدينية، فهل ثمة أي نوع من الترابط بين
الحالتين العراقية واليمنية، بما يستدعي ويتطلب مسارعة الصدريين إلى تقديم أنفسهم
في صورة الوسيط النزيه؟ وهل يمتلك التيار الصدري بالفعل مؤهلات الاضطلاع بدور
إقليمي كبير من هذا الطراز؟ وأخيراً، ما بالضبط المغزى السياسي لانتقال التيار من
«طرف محلي» متهم -برأي خصومه العراقيين- بإثارة المتاعب، إلى وسيط إقليمي قادر على
حل عقد سياسية عويصة مثل «عقدة صعدة»؟ إن تحليل مضمون هذه الوساطة (التي لم يُكتب
لها النجاح حتى الآن بعد قرار الرئيس اليمني علي عبدالله صالح مواصلة الحرب) يتطلب
تقديم منظورين متوازيين: أولاً: رؤية التحول في تركيبة وسياسات التيار الصدري، وهو
تحول مثير للاهتمام بدأ في مرحلة اختفاء الصدر عن المسرح السياسي العراقي قبل نحو
عامين ووصوله إلى قم للدراسة.
وعلى وجه الخصوص رؤية الإطار الجديد الناظم
لتحالفاته وخياراته السياسية غير المسبوقة التي تعيد تقديمه اليوم كتيار سياسي،
تخلى عن السلاح وتحول إلى «جماعة ثقافية- دينية».
ثانياً: رؤية الترابط في أزمات
المنطقة، الإثنية والمذهبية والسياسية، وعلى وجه الخصوص الترابط بين الحالتين
العراقية واليمنية، وبوصف هذا الترابط كجزء عضوي من ترابط أعم يشمل العديد من
البلدان المطلة على الساحل الطويل للبحر الأحمر، وصولاً إلى سواحل البحر الأبيض
المتوسط (أي من الصومال واليمن والعراق إلى لبنان...
إلخ) وبما يجعل من هذه
الأزمات مجتمعة، كما لو أنها أزمة واحدة كبرى، راحت تتجلى داخل كل بلد عربي في
صورتها «المحلية» المناسبة والمتوافقة مع الأوضاع والمعطيات الخاصة.
فيما يتصل
بالمنظور الأول، يجب أن نلاحظ أن تطورات هائلة حدثت خلال السنتين المنصرمتين على
تركيبة التيار الصدري، القيادية والهيكلية التنظيمية ككل.
إن واحداً من أكثر
المظاهر الدّالة على حدوث هذا التحول، اختفاء الذراع المسلحة للتيار والمسماة جيش
المهدي من المشهد السياسي الراهن، وتراجع الاعتماد على «استراتيجيات المواجهة
العنيفة» التي كان التيار الصدري ينتهجها مع كل الأطراف المتناقضة (الاحتلال
الأميركي، أعضاء النظام السابق، الحوزة في النجف، الحكومة، المجلس
الأعلى...
إلخ).
لكن أكثر المظاهر الدالة على عمق هذا التحول، يمكن رؤيتها في
النهج الجديد الذي اختطه التيار لإعادة تركيب تحالفاته في الساحة العراقية.
لقد
انتقل من مرحلة «التحالف والصراع» مع حزب الدعوة (وبشكل أخص مع المالكي وضده
واستطراداً الصراع ضد المجلس الأعلى ومرجعية السيستاني في النجف) إلى مرحلة التحالف
المكشوف مع خصوم الأمس المجلس الأعلى والمرجعية، ضد الحليف القديم حزب
الدعوة.
إذن، باختفاء الذراع المسلحة واستراتيجيات المواجهة كلياً، وبصورة مطردة
من أدبيات التيار وسياساته في حقبة ما بعد مقتدى الصدر المتفرغ للعلم الديني في قم
الإيرانية، يكون التيار الصدري قد حسم خياراته في هذه المرحلة، وتهيأ للانتقال إلى
دور سياسي يراد له أن يتخطى حدود الساحة العراقية.
ولنلاحظ أوجه الشبه بين تحول
التيار إلى تيار ديني- مذهبي بغطاء سياسي، كل أهدافه -كما يقول قادته الجدد- إنما
تنحصر في التثقيف الديني ونشر العقيدة، وبين إعلان زعيم الحوثيين على شبكة الإنترنت
عن أهداف جماعته التي تنحصر في التثقيف الديني ونشر الدعوة الإسلامية، أي: أن تحول
الجماعتين الصدرية في العراق، والحوثية في اليمن إلى «جماعتين ثقافيتين» بحسب ما
يتردد في أدبياتهما الإعلامية اليوم، هو الرابط الذي يمكن أن يجعل منهما فعلياً،
جماعة دينية واحدة تتجلى في بلدين، ولكن بأشكال مناسبة ومتلائمة مع الأوضاع الخاصة
لكل بلد.
إن الفروق المذهبية في الاجتهاد عند الزيديين اليمنيين و «الاثنا
عشرية» الصدريين، قد تبدو غير ذات أهمية، ولا ينبغي التركيز على أية قيمة محتملة
لها في سياق المشتركات المذهبية الكبيرة.
وفي هذا الإطار، يجب توقع حدوث تحول
مماثل داخل الجماعة الحوثية، قد تتخلى فيه عن «ذراعها المسلحة» تماماً كما فعل
التيار الصدري، حين أنهى اشتباكه العنيف في البصرة مع المالكي (ما يعرف بحملة صولة
الفرسان) بتسريح جيش المهدي وتفكيك منظومته المسلحة.
ولسوف تبدو الحملة الشرسة
على معاقل الحوثيين في صعدة، ومن زاوية التشابه الجزئي وحسب في ظروف الصدام بين
الجماعة الشيعية العراقية ومثيلتها الجماعة الشيعية اليمنية، كما لو أنها مجرد وجه
آخر وفي مكان آخر، لمعركة واحدة وقعت مرة في البصرة العراقية وقادها المالكي ضد
الصدريين، وهي تقع اليوم في صعدة اليمنية ضد الحوثيين ويقودها الرئيس علي عبدالله
صالح.
في الحالتين، ثمة صراع يتخطى حدوده المحلية.
مفكر وكاتب عراقي -العرب
القطرية