الحلقة السابقة إلى أن النتائج التي أفرزها التحرير المتزايد للتجارة كانت عظيمة
بلا مراء فمنذ أربعة عقود من الزمن فاق نمو التجارة في السلع والخدمات نمو الإنتاج،
لا بل منذ عام 1985م أضحى نمو قيمة التجارة يفوق نمو قيمة الناتج الإجمالي بمقدار
الضعف وفي عام 1995 بلغ حجم التجارة العبارة للحدود خمس مجموع السلع والخدمات
المحتسب إنتاجها إحصائياً.
ولفترة
طويلة من الزمن لمس المواطنون في البلدان الصناعية أن النمو المطرد في التشابك
الاقتصادي مع العالم الخارجي قد أدى فعلاً إلى رفع مستواهم المعيشي أيضاً إلا أن
الحال قد تغيرت في نهاية السبعينات إذ حدث تحول تاريخي في السياسة الاقتصادية
المطبقة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وهو تحول أضفى على الاقتصاد
العالمي بعداً جديداً فحتى ذلك الحين كانت غالبية البلدان الصناعية تسير في ضوء
المبادئ التي صاغها الاقتصاد البريطاني جون ما يناردكنز كرد على الكارثة الاقتصادية
التي اندلعت في الفترة الواقعة بين الحربين العالمتين وكان كينز قد رفع الحكومة إلى
مصاف المستثمر المالي الرئيسي في الاقتصاد الوطني إذا أناط بها التدخل عبر موازنتها
المالية في النشاطات الاقتصادية بغية تصحيح حالات البطالة والركود التي يفرزها
السوق فإذا تميزت الحالة السائدة بالركود فإن على الحكومات رفع الطلب الكلي من خلال
زيادة الإنفاق الاستثماري وذلك تفادياً لانكماش النمو الاقتصادي.
أما في الحالات
التي تتميز بنشاط اقتصادي يفوق حجم الطاقات الإنتاجية المتاحة فإن على الحكومات
تفادي التضخم وذلك من خلال استخدام زيادة الإيرادات الضريبية لتسديد ما ترتب عليها
من ديون كانت قد مولت بها ما أنفقته لمواجهة حالة الركود ومن هنا فقد دعم الكثير من
الدول على نحو انتقالي تلك الصناعات التي كان يعتقد أنها الضمانة لتحقيق نمو
اقتصادي سريع ولزيادة الطلب على الأيدي العاملة إلا أن هذا التصور أشريت من حوله
الشكوك بفعل ارتفاع أسعار النفط في الفترة الواقعة بين عام 1973 وعام 1979م ففي
الكثير من الحالات لم تتمكن الحكومات من السيطرة على العجز في الموازنة ومن التحكم
في التضخم كذلك لم يعد في الإمكان بقاء أسعار صرف العملات في مستوياتها
السائدة.
من هنا فقد اتخذ المحافظون الذين فازوا بالانتخابات في عام 1979م في
بريطانيا وفي عام 1980 في الولايات المتحدة الأمريكية عقيدة اقتصادية مختلفة كلية
كمبدأ لسياساتهم أعني ما يسمى بالليبرالية الجديدة التي نادى بها مستشار ريجان
الاقتصادي مليتون فريدمان أو مستشار مزتاتشر فريد رش فون هايك هذا الاقتصادي الذي
يمكن أن يعتبر من ممثلي المدرسة النقدية بناء على آرائه بشأن السياسة النقدية فقد
كان هذان المنظران قد أوكلا إلى الحكومة مهمة الحفاظ على الإطار العام للنظام
"الرأسمالي" مؤكدين أنه كلما تمتعت المشروعات بحرية أكثر بشأن استثماراتها
واستخدامها للأيدي العاملة كان النمو أبكر والمستوى الاقتصادي أعلى للجميع وبناء
على هذا الاعتقاد راحت الحكومات الغربية الليبرالية النزعة في غالبيتها تبذل في
الثمانينيات قصارى جهدها من أجل تحرير رأس المال من القيود فألقت على جبهة عريضة ما
كان سائداً من رقابة وتدخلات حكومية ولم تكتف بهذا فقط بل راحت تضغط على كل الشركاء
الرافضين لتطبيق هذا النهج للأخذ بالتوجه الجديد مهددين إياهم بالعقوبات التجارية
وبوسائل الضغط الأخرى فالتحرير والليبرالية والخصخصة: لقد غدا هذا الثلاثي الوسائل
الإستراتيجية في السياسية الاقتصادية الأوروبية والأمريكية التي أعلى من شأنها
المشروع الليبرالي الجديد لتغدو أيديولوجية تتعهد الدولة بفضها وبفعل إيمانهم
المتطرف بالسوق.
رأى الحاكمون في واشنطن ولندن أن النظام الذي يأخذ بقانون العرض
والطلب هو أفضل الأنظمة المتاحة طرا وصار توسيع التجارة الحرة هدفاً بحد ذاته لا
يحتاج إلى تسير والترحرير الكامل لأسواق الصرف الأجنبي وأسواق رأس المال ثم في
الواقع ومن دون أي اعتراض ذي شأن أكبر جذري في النظام الاقتصادي السائد في
الديمقراطيات الغربية.
وبعد مضي فترة وجيزة على ذلك لم تعد مجهولة هوية أولئك
الذين سيتحملون في المستقبل عبء مخاطر الأسواق فعلى وجه الخصوص في القطاعات المنتجة
للسلع الكثيفة العمل البشري والتي تشغل كثيراً من الأيدي العاملة غير المتعلمة أو
قله من الكادر المتخصص واجهت المشروعات من كل الأحجام المنافسة القادمة من بلدان
الأيدي العاملة الرخيصة الأجر ولذا أضحت صناعة الأثاث والمنسوجات والأحذية والساعات
اليدوية ولعب الأطفال مجدية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة فقط في حالة تحول
أجزاء واسعة من الإنتاج إلى الإنتاج الآلي أو إلى العالم الخارجي.
من ناحية أخرى
كانت اليابان قد انضمت بصفتها دولة صناعية جديدة إلى صف الرواد القدماء من السوق
العالمي.