صالح مجيّد
البائسين الذين قادهم الجوع في الظاهر، والمخابرات الأمريكيّة، على الأرض، إلى سحق
الجدار والحجّ إلى الجنّة الموعودة..
ومنذ عشرين عاما وقف زعماء الغرب تقودهم
أمريكا مزهوين يعلنون في تشفّ قضاءهم على الاشتراكيّة التي لم تجلب إلّا الأذى لهم
والفقرَ لشعوبها! ولم يدر بخلد هؤلاء
أنّ هذه الجنّة الموعودة ستتحوّل بعد عشرين سنة أيضا إلى جحيم يصطلي بناره
الجميع..
انهار الجدار منذ عشرين سنة وبعد عشرين أخرى انهار الاقتصاد
العاميّ...
واتّضح للمساكين الذين كانوا يرفعون علامات النصر وهم يعبرون شرق
"برلين" إلى غربها أنّهم تخلّصوا من براثن بقايا الستالينيّة ليسقطوا في فخّ
"مادوف" وأشباهه من شركات المساهمة الجشعة التي تحوّلت إلى أثر بعد عين.
أوروبا،
إذن، حسمت أمرها بنت جدارا، في حقبة زمنيّة، واختارت أن تسقطه.
فماذا عن الجهة
الشرقيّة من الأرض حيث ينام الحالمون متوسّدين الأمل في رؤية أوطانهم تصاب بالعدوى
الإيجابيّة كي ينالهم بعض نعيم أوروبا؟ إذا كانت أوروبا قد أسقطت الجدار فإنّ
الجدران بين الدول العربيّة قد تضاعفت وامتدّت حتّى أمست واقعا تُصبح الدول وتصحو
عليه كالقدر الذي لا مفرّ منه.
أوّل الجدران هو هذا التباعد بين أثرياء العرب
وفقرائهم..
تشهد عليه القمم العربيّة المتعاقبة حيث يقع التركيز على بعض القادة
ويقع إهمال آخرين.
فمن يهتم برئيس جزر القمور المسكين القادم على عجل لحضور قمّة
يشارك فيها نظراء له لا يعرفون اسمه ولا اسم عاصمة بلاده!؟...
ثانيها هذا
التباعد بين الحكّام وشعوبهم...
فالوضع العربيّ الراهن ينبئ عن مجموعات صغيرة
عرفت كيف تقتحم أروقة الحكم وتتحكّم في منابعه لتحوّله إلى أداة طيّعة تحقّق لها
رغباتها.والشعب لاه مشغول بالجري وراء خبزه اليوميّ يُحتاج إليه مرّات ليصفّق،
وليبكي، وليفرح حسب ما تمليه المصلحة والظروف.
جدار آخر قائم رغم أنف الشعبين
الجزائري والمغربيّ يشهد عليه المعبر الحدوديّ بين البلدين الذّي أُغلق منذ سنوات،
وتجمّدت فيه الحركة .
جدار عازل من الشكّ والتشكيك ومن المناورات
الصحفيّة...
ملايين من الناس يمنعون من التنقّل بين البلدين الجارين وتتعطّل
مصالحهم بقرار غير حكيم اتُّخذ في لحظة غاب فيها التعقّل ووانتكست
الكياسة.
اسألوا أيّ مواطن جزائري أو مغربيّ عن رأيه في غلق الحدود فسيعبّر، دون
تردّد، عن استنكاره للأمر.
إذن من اتخذ القرار؟ وهل وقعت استشارة الشعب كي يتّخذ
هذا القرار الغريب!؟؟ ما الفرق بين الحدود المغلقة بين أخوين جارين وبين الجدار
العازل في فلسطين؟ في "اليمن السعيد" يريد بعض مرضى العقول ممن أعمتهم المصالح
الضيّقة أن يقيموا جدارا عازلا بين شمال اليمن وجنوبه غير مراعين صلة القرابة
والمصاهرة ولا لوحدة اللغة والدين!! إنّ الحكمة تقضي بالتخلّي عن تبادل الاتهامات
والعودة إلى لغة العقل والحوار الهادئ.
فإذا كانت لأهل اليمن في الجنوب مطالب
مشروعة فما على الحكومة المركزيّة إلّا أن تنصت لها.
النعيق في صحراء الفرقة،
والعودة بالزمن إلى الوراء مسألة مرفوضة.فوحدة اليمن حقيقة ثابتة على صخورها تتحطّم
كلّ مشاريع الانفصال.
وما على الحكومة إلّا العمل على تخفيف معاناة الناس،وتكثيف
المشاريع التنمويّة حتّى تقضي على التفاوت بين الجهات والمحافظات.
وبين سوريا
والعراق جدار يريد له بعض الغلاة في العراق أن يقوم على أعمدة من التصريحات
والتلميحات التي تصدر عن مسؤوليّ الحكومة الطائفيّة يتّهمون فيه سوريّا بإيواء
"المخرّبين" بقايا الحكم البعثي"الذين يقفون وراء كلّ التفجيرات الضخمة في بغداد
!!.وغير خاف أنّ مثل هذه التصريحات تأتي كمسكّن يعطى للعراقيّ الحزين كي يطمئنّ إلى
أنّ الحكومة "خيّرة" وأنّ الأشرار القادمين من الحدود السوريّة هم الذين يزعزعون
الأمن، ويبثّون الفوضى في دولة العراق "الدموقراطيّة" الخالية من "ثاني أوكسيد
البعث".
والجدار الآخر الذي بنته الأنانيّة وقصر النظر ذلك الذي ارتفع ليفصل بين
"جمهوريّة غزّة الإسلاميّة" وبين دولة "رام اللّه وما جاورها من قرى في
الضفّة".
هذا الجدار حوّل الفلسطينيّ إلى أسير تعبث به أجهزة السلطة من جهة
وتحكم عليه أجهزة "حماس" التنفيذيّة قبضتها من جهة أخرى.
وقد زُيّن هذا الجدار
بالحملات الصحفيّة المسعورة بين الشقّين وبتبادل تهم التخوين والعمالة لجهات
أجنبيّة.
هذا الوضع زاد في بؤس الفلسطينيّ المسكين وحمله على اليأس وهو يرى
سيارات المسؤولين في الوطن الأسير تتجدّد وتتعزّز لتزداد فخامة ورفاهة ويزداد هو
بؤسا وشقاء.
وبين مصر وقطاع غزّة جدار عازل من الروتين الإداريّ على
المعبر.
حيث يتطلّب مرور سيارة إسعاف ساعات من التفتيش والتثبّت، وانتظار
التعليمات التي لا تأتي إلا من كبار المسؤولين.
وبين "السعوديّة" وقطر جدار من
عدم الرضى.
فالشقيقة الكبرى لا تطمئنّ إلى سعي الأخت الصغرى إلى القفز على
جغرافيتها والبحث عن كتابة تاريخ جديد.
أمّا إذا أضفنا إلى كلّ هذه الجدران جدار
"التأشيرة" فإنّ المشهد يزداد قتامة.
ففي الوقت الذي تتوحّد أوروبا تزداد الهوّة
بين الدول العربيّة لتتحوّل، بكثافة الجدران القائمة، إلى سجون كبيرة .
ونخلص
ممّا سبق إلى أنّ البحث عن حلّ في وحدة اندماجيّة أضحى كلاما "لا تاريخيّا" هو أقرب
إلى الوهم..
لكنّ العمل على توحيد هذه الأقطار اقتصاديّا وفكريّا عبر برامج
تعليميّة واضحة حداثيّة من شأنه أن يرسل النور ليشعّ على هذا المكان المظلم من
الأرض.