تعين على العمالقة الثلاثة وهي مؤسسات تنشط على مستوى الولايات المتحدة أن يواجهوا
في المستقبل وعلى كل الأصعدة منافسة الشركات الاحتكارية السبع التي كانت تنشط
محلياً وتكونان وحدات أكبر وتسرحان المزيد من الأيدي العاملة كما أعلنت من جانبها
الاستغناء عن أربعين ألف فرصة عمل أخرى وكذلك الحال بالنسبة إلى شركة الاتصالات البريطانية فهي أيضاً عقدت العزم على
زادة الأرباح من خلال تخفيض فرص العمل فهي وأن كانت قد ألغت منذ اندلاع عملية
الخصخصة في عام 1984 مائة وثلاث عشرة ألف فرصة عمل إلا أنها تريد أن تسرح حتى عام
2000 ستة وثلاثين ألف عامل آخر أي أنها ستكون بهذا قد سرحت ما يقرب من خمسين في
المائة من مستخدميها وعلى هذا النحو يتهيأ البريطانيون والأمريكيون لشن منافسة
شاملة ذات أبعاد عالمية، كانت السياسة قد مهدت الطريق لها وفي مقر منظمة التجارة
العالمية في جنيف نتفاوض الوفود الحكومية منذ خريف عام 1995 حول تفاصيل معاهدة
تحرير سوق الاتصالات على مستوى العالم أجمع وإذا تم الاتفاق على هذه المعاهدة فعلاً
وهو أمر يكافح من أجله لوبي المؤسسات المعنية وعندئذ "لن يبقى سوى أربعة أو خمسة
عمالة" في العالم كما يتكهن الأستاذ الجامعي إلى نوام الباحث المختص بشؤون هذا
القطاع في جامعة كولومبيا في نيويورك.
ولا يكتفي المؤمنون بالسوق في واشنطن
وبروكسل وفي غالبية العواصم الأوروبية فسيأتي في عام 2001 دور الخدمات البريدية
ومعها المليون والثمانمائة ألف عامل بريد في أوروبا كما يتعين إلغاء الاحتكار
السائد في مجال الطاقة الكهربائية وحسب ما يقوله البريطانيون فإن هذا هو ما ترغب في
تحقيقه الحكومة الاتحادية الألمانية بمفردها إن تطلب الأمر ويحظى هذا التوجه
بمناصرة بعض الولايات الأمريكية أيضاً.
بناء على هذه كله فإذا كان السياسيون
الأوروبيون صادقين فيما يزعمون على نحو متكرر من أن البطالة هي أكبر همومهم فإنهم
يطبقون بلا ريب جنوناً منظماً ولكنهم فعلاً على علم بما يعلمون.
إن من حق المرء
فعلاً أن يثير الشكوك ههنا وخير دليل على هذا هو التجربة التي عاشها في مطلع عام
1996 ففي الأول من يناير أعاد رئيس شركة الاتصالات الألمانية هيكل التعريفات إذ خفض
تكاليف المكالمات الهاتفية مع خارج المدن ورفع تسعيرة المكالمات في داخل المدن
وكانت هذه الخطوة حكيمة كلية إذا ما أخذ المرء بعين الاعتبار ضرورة تمهيد الطريق
لعملاق الاتصالات الهاتفية الألماني لكي يواجه المنافسة القادمة ولكي يكون في وضع
جيد عندما يفتح الاكتئاب بأسهمه في البورصات ففي سياق الصراع التنافسي لن يكون في
الإمكان دعم أسعار المكالمات الهاتفية مع المناطق القريبة وهي مكالمات ذات طابع
أهلي في الغالب بأسعار المكالمات الهاتفية الأبعد مدى والتي يتعلق معظمها
بالمعاملات الاقتصادية وذلك لأن المنافسين الجدد سيحاولون في البداية استقطاب
الزبائن الكبار بتعريفات منخفضة ولهذا السبب تعين على sommer اتخاذ الإجراءات
المطلوبة لكي يكون شركة الاتصالات الألمانية قادرة على مواجهة هذه التطورات إلا أنه
ما أن جرى العمل بالتسعيرات الجديدة حتى راحت الصحف المختصة بنشر الفضائح والأخبار
المفزعة ومعها رجالات السياسة تهيج على نحو موحد الرأي العام ضد شركة الاتصالات
الألمانية متهمة إياها بالجشع وباستغلال حاجة بسطاء الناس إلى التلفون ومحاباة
الأثرياء من رجال المال والصناعة الذين سيدفعون تعريفات أدنى من تلك التي كانوا
يدفعونها في السابق فالسياسيون أنفسهم الذين كانوا قد صادقوا على سلم التعريفات
الجديدة راحوا الآن يطالبون برغم اختلاف انتماءاتهم الحزبية بضرورة تطبيق تسعيرة لا
تعيق صنعاً في القوة الشرائية من التحديث إلى الأقرباء والأصدقاء عبر الهاتف وكان
وزير البريد فولفجانج بوتش في مقدمة هؤلاء ومن هنا لم يبق في جعبة سومر سوى التعجب
والشكوى من أن هذه الرغبة في كسب ود الجمهور العام هي أمر "منكر".
وغير أن اللعب
السياسي على الحبال والتأرجح بين الاستنكار والتفاقم لم يكن عملاً أخرف فقط بل هو
دليل أيضاً على أن غالبية رجال الحكم لم يعودوا يسيرون غور نتائج ما يصوغون من
برامج اقتصادية ذات أبعاد عالمية "أن القرار بتحرير بعض القطاعات الخدمية التي كانت
الدولة تحتكر تقديمها هو ليس خطوة ذات طابع أيديولوجي أبداً بل هو تعبير عن رغبة
طبيعية للتكيف مع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية" كما يؤكد ذلك المفوض الأوروبي
لشؤون المنافسة كارل فون ميرت ولا ريب في أن أسلوب vanmiert في التعبير يزيح القناع
عن الأيديولوجية اللامبالية التي يلمسها المرء دائماً وأبداً حينما يزعم السياسيون
بأنهم يستجيبون لما تمليه عليهم طبيعة الأمور عندما يتخذون قراراتهم بشأن خصخصة
المشاريع الحكومية وتوزيع العوائد الضريبية والمميزات الاقتصادية وممثلو اللوبي من
قبيل ديرك هودج المدافع عن مصالح المؤسسات الصناعية البريطانية في بروكسل المواطنون
في أوروبا عن الخدمات الحكومية هي "نتيجة منطقية لسوء الجدارة السائدة في المشاريع
الحكومية فهذه تخدم المستخدمين لديها أكثر من خدمتها للزبائن" ويواصل حديثه قائلاً:
"إذا كانت أوروبا تريد أن تكون قادرة على المنافسة فإنه لا يجوز لها الاستمرار في
إثقال كاهل القطاعات المنتجة في المجتمع بأعباء سوء الجدارة هذه".
ولربما بدت
هذه الكلمات منطقية للوهلة الأولى فتكاليف الهاتف والنقل والطاقة الكهربائية أو
السفر لأغراض تخص المعاملات الاقتصادية تشكل حينما تكون مرتفعة عبئاً يقلل من فرص
الاقتصاد الأوروبي على مواجهة المنافسة العالمية إن المستهلكين من الأهالي يدفعون
أيضاً أسعاراً مرتفعة لما تقدمه لهم الاحتكارات من خدمات وأنهم كثيراً ما يتذمرون
من سوء إنجاز هذه الخدمات فالأمر الذي لا شك فيه هو أن غالبية المشروعات المعنية
تعمل مقارنة بما هو متاح لها من وسائل تكنولوجية بجدارة متدنية ومع هذا كله
تقدم فرص عمل آمنة لجمهور واسع من العاملين ومن هنا فعندما يكون هناك ملايين من
المواطنين مهمشين أو يرتعدون خوفاً على فرص عملها وعلى مستقبل أطفالها يصبح التحرير
الاقتصادي طيشاً سياسياً.