الحلقة السابقة إلى أن الدولة التي تسعى إلى الحفاظ على صناعاتها الكثيفة، ستنجح في
سعيها هذا فقط في حالة إغلاق حدودها في وجه المنافسة القادمة من البلدان المتطورة
الأخرى ، وليس ثمة شك في أن ثمن هذا سيكون خسران هذه الدولة لكل أسواقها الخارجية
وذلك لأن المنافسين سيردون بالمثل ويتخذون الخطوات نفسها..
إنها استراتيجية فوضوية بكل تأكيد، إضافة إلى أن
الثمن الذي ستدفعه هذه الدول لقاء حمايتها للأساليب التكنولوجية المختلفة سيمثل
خسارة عظيمة في مستواها الرفاهي وإن كانت قد حققت استخداماً أكبر لقوى
العمل.
وفي كل الحالات التي يرفع فيها الاقتصاديون ورجالات الاقتصاد صوتهم
محذرين وداعين مواطني دول الرفاه الاقتصادية إلى أن يقبلوا بشيء من ضيق العيش في
المستقبل وذلك لأن العاملين بأجور زهيدة يغرقون الأسواق في كل مكان فإنهم متنامون
حتى الآن وكذلك الحال بالنسبة إلى متوسط معدل ربحية رأس المال المستثمر فهي أيضاً
لا تزال متنامية بل وتنمو على نحو أسرع من معدل نمو الناتج القومي الإجمالي الأمر
الذي يثبت أن البلدان الفقيرة لا تنتزع من الأغنياء فرص الرفاهية الاقتصادية
فقط.
وبناء على هذا كله فإن فحوى التوترات المرافقة للتشابك الاقتصادي العالمي
لا تزيد ولا تنقص عن كونها صراعاً على توزيع الدخل القومي أي أنها ليست بالظاهرة
الجديدة بل هي الصراع القديم.
قدم النظام الرأسمالي نفسه والأمر العجيب هو أنه
لا يزال في وسع المغرمين بنظام السوق التغاضي عن هذه الحقيقة البسيطة الساطعة وخداع
أنفسهم والرأي العام.
النموذج الألماني: أكذوبة ضياع القدرة التنافسية: كان
هلموت كول قد أثنى ثناء عظيماً وراح يصرح بعبارات من قبيل "لقد قدمت النقابات
العمالية معاوناةٍ استثنائية وأثبتت استعدادها لتفهم الأمور"، يتملق إلى ممثلي
الطبقة العاملة الألمانية مؤكداً أن تحالفهم من أجل زيادة فرص العمل قد أفرز نتائج
إيجابية، وأن رئيس نقابة صناعة الصلب والحديد كلاوس زفيكل "مواطن ألماني قادر على
اتخاذ القرار الصائب " كما راح يعلن عن رغبته في إبداء تقديره وشكره" لنقابة
الصناعات الكيماوية.
وبعبارات جياشة مضى يؤكد لمنافقيه وقوفه في صفهم في أوقات
الشدة: "إني تلميذ للودفيج إبرهارد" وبالتالي فإن هذا الحزب لن ينتهج أبداً سياسة
تقبل بالنتائج التي تفرزها السوق دونما قيد أو شرط.
لقد انتقلت ألمانيا بلا ريب
من عهد إلى عهد جديد: فالحكومة القائمة على ائتلاف يضم قوى محافظة وليبرالية قد
أضحت تتبنى ليس على نحو مبطن فقط بل على نحو عام وهجومي ما كانت الطليعة الرأسمالية
في البلد تدعيه وتطالب به منذ سنوات، فحينما يقول المستشار علانية: أننا أصبحنا
مرتفعي الثمن كثيراً، في الواقع فقط أولئك الذين يحصلون على دخولهم بصفتهم مستخدمين
وعمالاً.
من ناحية أخرى أخذت تنمو وتنتشر على نحو بين وسريع تهمة التفكير في
المصلحة الذاتية والدفاع عن المكتسبات الخاصة فقط، وكان رئيس وزراء مقاطعة سكسونيا
ومنظر الحزب المسيحي الديمقراطي "كورت بيد تكويف" وقد أعلن عثوره على "جبل شامخ من
المصالح الخاصة" التي يتعين "القضاء عليها".
أن الهدف من كل هذا واضح بلا مراء:
فبما أن القيمة المتبقية لتسديد أجر العمل في تناقص مستمر في عالم الاقتصاد المعولم
لذا فإنه يتعين على العمال وعلى أولئك الذين يعيشون من المدفوعات التحويلية أن
يتقاسموا فيما بينهم المصافي المتبقي بحيث يحصل كل واحد منهم على شيء منه وبطريقة
تضمن تخفيض عدد العاطلين عن العمل أما اليوم فإنه على ثقة بأن الحكومة ستقف إلى
جانبه ويعود نجاح فالتر وأقرانه إلى حملة إعلامية تستعر منذ سنوات ودونما مبالاة من
استخدام كل المغالطات والحجج الزائفة لتأكيد مراميها أعني الحملة الإعلامية المنذرة
من أسطورة فقدان ألمانيا لقوتها التنافسية في الاقتصاد العالمي.
وتؤكد إحدى
الحجج الرئيسية في هذه الحملة الإعلامية أن ما تقدمه الدولة الألمانية من رعاية
اجتماعية قد أضحى أمراً مكلفاً جداً وأن الكثير من المواطنين قد استسلموا لعقلية
مفادها أن الدولة تقدم "التأمين الشامل" وأنهم صاروا يحبذون الحصول على المساعدات
الاجتماعية من أسس النظام الألماني للتكافل الاجتماعي بحاجة إلى إصلاحات جذرية
فمائة واثنتان وخمسون صيغة مختلفة من المدفوعات التحويلية منظمة تنظيماً تسوده
الفوضى إلى حد ما وتسبب تحمل الدولة تكاليف إدارية باهظة وتفسح في المجال لأن يحصل
عليها العديد من الحالات من لا يستحقونها في حين أنها لا تكفي من هم أهلٌ لها لأنهم
يحصلون على سكن مناسب فهناك ما يزيد على ثمانية ملايين مواطن يعيشون تحت خط الفقر
لا تستطيع الدولة دمجهم مجدداً في الحياة الاجتماعية عن طريق التعليم وخلق فرص
العمل وذلك لعدم توافر المال اللازم.
أن هناك أمراً واحداً مؤكداً هو بهتان دعوى
أن دولة الرعاية الاجتماعية قد أضحت عظيمة الكلفة، أن ما تغير على نحو دراماتيكي هو
الطريقة التي يمول بها هذا العبء المالي فما يقرب من ثلثي المدفوعات الاجتماعية
يمول من خلال الأقساط المفروضة على الدخول المتأتية من أجور العمال ورواتب
المستخدمين وبما أن حصة هؤلاء من الناتج القومي تنخفض باستمرار بسبب البطالة وبسبب
انخفاض معدلات نمو دخولهم لذا تعين رفع الأقساط على نحو عظيم مع مرور الزمن بغية
تمويل رواتب التقاعد والمدفوعات التي يحصل عليها العاطلون عن العمل والخدمات الطبية
فأربعة ملايين عامل عاطل عن العمل يشكلون بالنسبة إلى صناديق التقاعد خسارة تبلغ
"16" مليار مارك في العام الواحد.
من هنا فإن سبب الأزمة السائدة في نظام
الرعاية الاجتماعية الألماني يكمن في المقام الأول في الأزمة السائدة في سوق العمل
وليس في ما انتاب المواطنين من تكاسل أفرزه نظام الرعاية الاجتماعية فتفادياً
لارتفاع تكاليف العمل على نحو غير مبرر كان بناء على الثراء المتنامي في البلد من
الأولى إشراك أولئك الذين لا يوقعون أي أقساط اجتماعية أعني الموظفين الحكوميين
والعاملين لحسابهم وأصحاب الثروة.