شهاب
الدين المحمدي
الدين المحمدي
يبدأ الحزن مشواره من غزة ، يتسع فيها كالبحر
مالحاً في القلوب وتضيق به شرايين الروح ، لكنها وإن اختنقت به ، يبقى أيضاً بالأمل
محبة الروح، لكني أتوقف مثل كثيرين عند الذكرى الأولى للعدوان على غزة فيصبح التوقف
سيراً طويلاً مخيفاً في غاية من الحزن وقافلة تمضي في صحراء اليأس العربي، ويلي
إذاً أيها القلب الباكي من قاطعي الطريق!!.
غزة التي ابتدأت بطولتها بالصمود هي ذاتها غزة التي أنهت
رجولتنا بالهوان، هي عينها غزة التي انتصر كفها على المخرز وهزمت ما تبقى من
عروبتنا الذابلة لم يستعص عليها أن تهزم بالدم طغيان السيف حين استعصى علينا أن
نجمع بعض الورود ونضعها على أضرحة شهدائها العظماء، ليس في جذوة قلوبنا سوى الرماد
بعدما انطفأت، ووحدها غزة تحترق كالعود ، والبخور يزداد ضوعاً وعبقاً كلما ازداد
احتراقها!!.
ولأننا بلا سيقان عجزنا أن نرحل نحو غزة، ولأنها عظيمة الإباء لم
تنتظر حتى نذهب إليها، فجاءت إلينا ملأت قلوبنا أعيننا غرقنا وأرواحنا وبقينا مع
ذلك فارغين من الإمتلاء بكل قيمة، ساقطين من كل شاهق نستوطن كل قعر، ونشتم في جوع
طعام حقير وذليل ، ونفرح إن لقينا فضلة طعام على موائد السادة الكبار ،ونقبل
الأقدام والأحذية مسرورين بكوننا كلاباً طائعة لسيدها وإن جوّعها سيدها!!.
الحزن
والفرح يأبيان تذكرينا، يشيحان بنفور كلما تلونا أسماءنا على الذاكرة الغاضبة
يصطفان كلما مررنا بشاريعهما ويسدان الطريق علينا أمام منازلهما، لا شيء فينا يستحق
أن يحترمه هذا الوجود المتأفف من وجودنا، ونحن المتسولون في أزقة التاريخ نأبى حتى
أن نغسل أجسادنا التي أزكم عفونتها ونتنها أنوف الأنبياء والأولياء والصالحين
والأبطال ، نحن السخرية ذاتها منا، وتنتحر السخرية هازئة بسخريتها وتغص في حلق
التاريخ آخر ضحكة ولو كانت هازئة فتنتحب الأحداث وهي غارقة في الخزي والعار والذل
والشنار!! ماذا بقي للعربي حتى لا يصح عليه لقب العربي سوى سراب العروبة وشيخوختها
وماذا بقي للمسلم حتى لا يصح عليه من أسم المسلم سوى سبحة تدور في يديه في فراغ
حزين مثلها مثل صاحبها لقد مضينا من الأبواب الخلفية ولا ندري كيف سنعود ، نجثو
ذلاً وضراعة أمام الطغاة وأكفنا مرفوعة نحو السماء فتحتقرنا السماء وتشدد النكير
على ملائكتها الذين ملأوا أرجاءها ألا تصعد أرواحنا الكثيفة إلى لطافة قدسها.
لا
شيء تحتقره هذه العظمة أكثر من الخيانة، ونحن الخيانة ذاتها، وتبكي الأرض من ذل
عيشها وتتمنى لو أننا لا نعيش على ظهرها ولا نكون عند موتنا في بطنها ، ومن منكم
سمع حشرجتها الباكية كل صباح ومساء إلى الله : إلهي حتى متى سأظل أحتمل هذا العار؟!
ليست غزة من يحاصرها أعداؤها رهباً منها، ويحاصرها أشقاؤها رغباً في جود أعدائها
اللئام، بل نحن المحاصرون بالعار، محاصرون بثرواتنا الراكعة للجبت والطاغوت،
بقلوبنا الجاثية في محراب الأمم ذلا وانكساراً، بأرواحنا التي يعلوها سخام المحرقة
حتى أسودت لهذه النفوس الضعيفة التي يستوطنها الهلع من كل شيء فتمسك السوط مقبلة
وتطلب الرحمة ممن لا يرحم، والشفقة ممن لا يشفق! نفذ العار في أجسادنا ونفوسنا حتى
صار كأنه هي وكأنها هو، لكن حتى العار نفسه بدأ يستشعر الخزي من أن تكون هذه
الأجساد والنفوس مسكنة، فصرخ غاضباً : أيها العار ألا يوجد في اتساعك المخزي مأوى
أفضل؟ ارتعشت أعصاب التاريخ من قذارة الصرخة فأشاح عنها مضطرب الجنان والأصابع حين
تمسك القلم "آه كم أنت تعيس ! لماذا أنت مجبر على كتابة كل هذا؟ يهمس التاريخ في
نفسه ويتهم نفسه طامعاً في فضل تزكية يغدقها الله عليه أن صدق في الإدانة والاتهام،
فتتمرد الأوراق حين الكتابة عليها كاضطراب الذبيح، ثم تسكن بعد نفاد تدفق الدم من
العروق إلى الأرض الظامئة! هل سيشهد التاريخ إيماناً وغضباً ليغسل نفسه من عار
الأنظمة؟ هل سيستحيل بدوياً موتوراً طالباً الثأر ممن ظلمه؟ هل سيخبئ القنبلة تحت
الكراسي المطمئنة التي غصت بظلمها؟ هل سيحمل البندقية ويعلو جبل قاف مبتدئاً كفاحه؟
هل سيقف من أجله على الأعراف سادة الدنيا العالمين يعرفون كلاً بسيماهم؟ هل ستكون
آلام غزة بداية النهاية لكل هذا القبح المشوه مثل مسخ كريه سلق بماء النار؟ هل يمكن
أن تكون حمرة الدم القانية حمرة الزهور والورود الجذلة بالربيع القادم؟ إرفع رأسك
أيها التاريخ..
أقولها له ثم أمسح على رأسه ، فينغض إلى وجهاً شائخاً وأردف : لن
تموت باكياً أعدك بذلك ثم استخرج من صدري نسخة من القرآن ونقرأ في خضوع ويمد النور
الشحيح رداءه شيئاً فشيئاً على هذا الدرب، ويتراكم النور كما تراكمت من قبل الظلمة
فيمسحها وتبدو غزة في صندوق الدنيا لؤلؤة حبيبة، ولكن أين ذهبت جوهرة هذا الكنز؟
أفتش في قلق ثم أضع يدي عليها وأضمها إلى صدري، سأموت يا حبيبة لكني لن أسلمك إلى
أحد لن أسلمك إلى أحد!! لن أسلمك إلى أحد!!.
مالحاً في القلوب وتضيق به شرايين الروح ، لكنها وإن اختنقت به ، يبقى أيضاً بالأمل
محبة الروح، لكني أتوقف مثل كثيرين عند الذكرى الأولى للعدوان على غزة فيصبح التوقف
سيراً طويلاً مخيفاً في غاية من الحزن وقافلة تمضي في صحراء اليأس العربي، ويلي
إذاً أيها القلب الباكي من قاطعي الطريق!!.
غزة التي ابتدأت بطولتها بالصمود هي ذاتها غزة التي أنهت
رجولتنا بالهوان، هي عينها غزة التي انتصر كفها على المخرز وهزمت ما تبقى من
عروبتنا الذابلة لم يستعص عليها أن تهزم بالدم طغيان السيف حين استعصى علينا أن
نجمع بعض الورود ونضعها على أضرحة شهدائها العظماء، ليس في جذوة قلوبنا سوى الرماد
بعدما انطفأت، ووحدها غزة تحترق كالعود ، والبخور يزداد ضوعاً وعبقاً كلما ازداد
احتراقها!!.
ولأننا بلا سيقان عجزنا أن نرحل نحو غزة، ولأنها عظيمة الإباء لم
تنتظر حتى نذهب إليها، فجاءت إلينا ملأت قلوبنا أعيننا غرقنا وأرواحنا وبقينا مع
ذلك فارغين من الإمتلاء بكل قيمة، ساقطين من كل شاهق نستوطن كل قعر، ونشتم في جوع
طعام حقير وذليل ، ونفرح إن لقينا فضلة طعام على موائد السادة الكبار ،ونقبل
الأقدام والأحذية مسرورين بكوننا كلاباً طائعة لسيدها وإن جوّعها سيدها!!.
الحزن
والفرح يأبيان تذكرينا، يشيحان بنفور كلما تلونا أسماءنا على الذاكرة الغاضبة
يصطفان كلما مررنا بشاريعهما ويسدان الطريق علينا أمام منازلهما، لا شيء فينا يستحق
أن يحترمه هذا الوجود المتأفف من وجودنا، ونحن المتسولون في أزقة التاريخ نأبى حتى
أن نغسل أجسادنا التي أزكم عفونتها ونتنها أنوف الأنبياء والأولياء والصالحين
والأبطال ، نحن السخرية ذاتها منا، وتنتحر السخرية هازئة بسخريتها وتغص في حلق
التاريخ آخر ضحكة ولو كانت هازئة فتنتحب الأحداث وهي غارقة في الخزي والعار والذل
والشنار!! ماذا بقي للعربي حتى لا يصح عليه لقب العربي سوى سراب العروبة وشيخوختها
وماذا بقي للمسلم حتى لا يصح عليه من أسم المسلم سوى سبحة تدور في يديه في فراغ
حزين مثلها مثل صاحبها لقد مضينا من الأبواب الخلفية ولا ندري كيف سنعود ، نجثو
ذلاً وضراعة أمام الطغاة وأكفنا مرفوعة نحو السماء فتحتقرنا السماء وتشدد النكير
على ملائكتها الذين ملأوا أرجاءها ألا تصعد أرواحنا الكثيفة إلى لطافة قدسها.
لا
شيء تحتقره هذه العظمة أكثر من الخيانة، ونحن الخيانة ذاتها، وتبكي الأرض من ذل
عيشها وتتمنى لو أننا لا نعيش على ظهرها ولا نكون عند موتنا في بطنها ، ومن منكم
سمع حشرجتها الباكية كل صباح ومساء إلى الله : إلهي حتى متى سأظل أحتمل هذا العار؟!
ليست غزة من يحاصرها أعداؤها رهباً منها، ويحاصرها أشقاؤها رغباً في جود أعدائها
اللئام، بل نحن المحاصرون بالعار، محاصرون بثرواتنا الراكعة للجبت والطاغوت،
بقلوبنا الجاثية في محراب الأمم ذلا وانكساراً، بأرواحنا التي يعلوها سخام المحرقة
حتى أسودت لهذه النفوس الضعيفة التي يستوطنها الهلع من كل شيء فتمسك السوط مقبلة
وتطلب الرحمة ممن لا يرحم، والشفقة ممن لا يشفق! نفذ العار في أجسادنا ونفوسنا حتى
صار كأنه هي وكأنها هو، لكن حتى العار نفسه بدأ يستشعر الخزي من أن تكون هذه
الأجساد والنفوس مسكنة، فصرخ غاضباً : أيها العار ألا يوجد في اتساعك المخزي مأوى
أفضل؟ ارتعشت أعصاب التاريخ من قذارة الصرخة فأشاح عنها مضطرب الجنان والأصابع حين
تمسك القلم "آه كم أنت تعيس ! لماذا أنت مجبر على كتابة كل هذا؟ يهمس التاريخ في
نفسه ويتهم نفسه طامعاً في فضل تزكية يغدقها الله عليه أن صدق في الإدانة والاتهام،
فتتمرد الأوراق حين الكتابة عليها كاضطراب الذبيح، ثم تسكن بعد نفاد تدفق الدم من
العروق إلى الأرض الظامئة! هل سيشهد التاريخ إيماناً وغضباً ليغسل نفسه من عار
الأنظمة؟ هل سيستحيل بدوياً موتوراً طالباً الثأر ممن ظلمه؟ هل سيخبئ القنبلة تحت
الكراسي المطمئنة التي غصت بظلمها؟ هل سيحمل البندقية ويعلو جبل قاف مبتدئاً كفاحه؟
هل سيقف من أجله على الأعراف سادة الدنيا العالمين يعرفون كلاً بسيماهم؟ هل ستكون
آلام غزة بداية النهاية لكل هذا القبح المشوه مثل مسخ كريه سلق بماء النار؟ هل يمكن
أن تكون حمرة الدم القانية حمرة الزهور والورود الجذلة بالربيع القادم؟ إرفع رأسك
أيها التاريخ..
أقولها له ثم أمسح على رأسه ، فينغض إلى وجهاً شائخاً وأردف : لن
تموت باكياً أعدك بذلك ثم استخرج من صدري نسخة من القرآن ونقرأ في خضوع ويمد النور
الشحيح رداءه شيئاً فشيئاً على هذا الدرب، ويتراكم النور كما تراكمت من قبل الظلمة
فيمسحها وتبدو غزة في صندوق الدنيا لؤلؤة حبيبة، ولكن أين ذهبت جوهرة هذا الكنز؟
أفتش في قلق ثم أضع يدي عليها وأضمها إلى صدري، سأموت يا حبيبة لكني لن أسلمك إلى
أحد لن أسلمك إلى أحد!! لن أسلمك إلى أحد!!.