الملحم *
السبب الذي مكّن تنظيم القاعدة من النجاح؟! فشل محاولة، أو إحباط عشر محاولات مثلها
لا يعني إطلاقاً أن التنظيم غُلب على أمره، فالأمر على العكس من ذلك تماماً! فتحوّل
تنظيم القاعدة في اليمن بفعل محاولة «عمر فاروق» الفاشلة بتفجير طائرة «ديترويت»،
من فرع إلى مركز، متجاوزاً الحدود في
تبني وتنفيذ العمليات الإرهابية، يجعل السؤال القديم القلق يطل من جديد بصورة ومؤشر
أكثر خطورة من قبل: كيف تمكّن تنظيم القاعدة طوال تلك الفترة من تجنيد آلاف الأفراد
في مناطق متفرقة ومختلفة من العالم، وهو لم يبرح مكاناً مركزه في أفغانستان؟! إلى
السؤال: كيف تمكّن تنظيم القاعدة القابع في اليمن فرعاً من تجنيد عمر البعيد عنها
آلاف الأميال؟ وكيف استطاع تخطيط مثل تلك العملية الخارجية؟! ودَعْ عنك التفكير في
وسائل التجنيد الإلكترونية - كشبكة الإنترنت - فما هي إلا أوعية أحسنت «القاعدة»
استغلالها، فيما لم نحسن استغلالها، فضلاً عن أننا لا نزال نجادل حول «الأثير» الذي
استطاعت «القاعدة» من خلاله تمرير أهدافها! كما نجحت «القاعدة» في تمرير عملياتها
الإرهابية من خلال مواد مصنّعة بسيطة، فإن تلك البساطة هي ذاتها التي لن تكلفنا
أكثر من مراجعة «أثير التنظيم المستغل»، وأعني به «الخطاب الديني» الذي تبنته
القاعدة باسم الإسلام.
فالقاعدة تخاطب العالمين الداخلي والخارجي باسم الإسلام،
ونحن نخاطب العالم الداخلي والخارجي باسم الإسلام، مع فارق أن القاعدة نجحت في
الحديث باسم الإسلام للعالمين الداخلي والخارجي، فيما أخفقنا في الداخل، وما زلنا
نفند للعالم الخارجي أن الإرهاب ليس من الإسلام! الخطاب الديني «المعولم» للقاعدة -
الذي بات من الواضح وشبه المؤكد اتساع تأثيره ونفوذه - لم يكن ليشيع لولا عدم
مواجهتنا لخطر تداخل الفكر المتطرف مع الثقافة السائدة، خصوصاً أن كثيراً من القيم
التراثية للمجتمعات - خصوصاً الإسلامية - تتداخل مع كثير من القيم التي تبنتها
القاعدة، على رأسها مفاهيم الجهاد والتفكير والولاء والبراء ودار الإسلام ودار
الكفر، فضلاً عن قضية موقف المسلمين من غير المسلمين، التي تعدتها إلى قضية موقف
المسلم من المسلم الآخر! هذه المعطيات التي قدّم بها الإرهاب نفسه إلى المجتمعات
تشكّل نقطة مهمة تتمحور حولها ضرورة أكيدة لنقد «الخطاب الديني» من جهتين: نقد
التداخل بين «الخطاب الديني» والنظم الحياتية الحديثة في المجتمع، ونقد دور «الخطاب
الديني» في تشكيل «الذات الاجتماعية»، أو تشكيل «الهوية»، خصوصاً تشكيل «الهوية
الوطنية».
في تصوري الشخصي أن المشكلة الحقيقية في قضية تجديد «الخطاب الديني»
تتمثل في أنه إذا لم يكن هناك جهد علمي مبذول لإحياء أصول الدين وتجديد فروعه، فلا
يمكن الحديث عن تجديد للخطاب.
إحياء الدين وتجديده كمفهوم يسبق تجديد «الخطاب
الديني»، ذلك أنه المنطلق الذي يصدر عنه الخطاب، والأرضية التي يقوم عليها، فإذا
كان الفكر جديداً والدين حياً متجدداً...
صدر الخطاب المعبر عنه جديداً وحياً
وحيوياً، لأن الخطاب في النهاية هو أداة الفكر في التعبير، والقوالب والتراكيب التي
تحمل معانيه ودلالاته ومفاهيمه.
مواجهة هذا التداخل بين معطيات الإرهاب والثقافة
المجتمعية وأهمية فصل الحقيقة عن غيرها بعمليات فكرية مماثلة، هو أمر ضروري لمواجهة
نماذج فكرية متطرفة يمكن أن تترك أثراً على مستويات فكر المجتمع وأمنه، وتجعله يختل
ويفقد توازنه، وهذا بالضرورة يعيد حسابات المرجعية الفكرية للواقع الاجتماعي
والثقافي.
فمن منّا ينكر أن المجتمعات الإسلامية في عمومها لم تكن لتتخلف إلا
بعد أن أهملت العلم ! واكتفت باستهلاك ما ينتجه الآخرون ، واعتبرت أن وظيفتها
الكبرى مجرد استنساخ خبرات تاريخية قديمة بنصها وروحها ، فأهملت العقل واكتفت
بالنقل .
واعتبرت أن كل ما يختلف عن حياة الأوائل من المسلمين ليس من الدين ، أو
على الأقل يناهض بعض أسسه .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: مَنْ المسؤول عن هذه
العملية: الثقافة، أم التعليم، أم مَنْ؟ إن عملية تجديد الخطاب الديني ، وصولاً إلى
خطاب ديني متطور في المساجد وفي البيوت وفي المدارس، ومناهج التعليم والإعلام
والثقافة وسلوك المجتمع في الفكر وإعمال العقل وتدبر الكون، واستنباط القوانين
الاجتماعية والاقتصادية التي تتشكل من رحم التطورات المختلفة ، والتكيف الايجابي مع
الظواهر الكبرى التي تفرض نفسها على الجميع ، كالعولمة وتشابك المجتمعات والأسواق
وثورة الاتصالات والتقدم التكنولوجي المتسارع، الذي يبدو منطلقاً بلا قيود من أي
نوع وهي ظواهر نعيش في ظلها وتحت رحمتها، رضينا أم أبينا، وسواء شاركنا في صنعها،
أو تغيبنا عن هذه المشاركة واكتفينا بمجرد الفرجة والمشاهدة، وبالتالي مزيد من
«شهقات» الاستنكار لمشهد أحد أبناء ظهرانينا وهو يفجر نفسه!.