محمد المختار *
المنطق كما تجاوز حدود الجغرافيا، وفي جنوبه حراك يدق نذر التمزق والانفصال، وفي
وسطه وشرقه وجنوبه أيضا، مراكز تدريب «القاعدة» وخلاياها، التي أقل ما يقال عنها
أنها لم تعد خلايا نائمة، وعلى امتداد ترابه ومدنه وقراه، يتفشى السلاح الفردي
والقبلي، تماما كما يعم الفقر والعوز وأدران الأمية شرائح مجتمعه.
أما في المركز، فحكومة تشغلها السياسة أحيانا فلا
تستشعر الخطر، وتهمل التنمية، وكلما استفحلت مشكلة أو طغت أزمة، يبحث لها عن شماعة
تبرير بالحديث عن مؤامرة داخلية أو تدخل خارجي، في انتظار الأزمة
القادمة.
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ والآن، هذه دعوة
بريطانية لاستضافة مؤتمر دولي حول اليمن، وقبلها وبعدها اهتمام أميركي يتفاقم،
بمصير هذا البلد العربي المجروح.
وغنيّ عن القول أن مؤتمر لندن الدولي، الذي دعا
إليه غوردن براون، لن يفلح في انتشال اليمن من معاناته أكثر مما أفلحت مؤتمرات
دولية أخرى انعقدت في لندن وبرلين في انتشال أفغانستان من مشكلاتها، وبدهي أن
الاهتمام الأميركي باليمن لن يمنحه من الاستقرار أكثر مما نعم به العراق وأفغانستان
نتيجة الاهتمام الأميركي بهذين القطرين.
نعم سيتداعى جمع من أصحاب القرار
الدوليين إلى دعوة رئيس الوزراء البريطاني، وسيتم الحديث عن الإرهاب ومخاطره وعن
مشكلات اليمن وتبعاتها الدولية، لينفضّ المؤتمر عن قرارات معادة ومكررة ومعروفة
النتائج سلفا: تدويل للقضية، ورؤية مبسطة وأحادية، ستتلخص غالبا في البحث عن مواجهة
ظاهرة الإرهاب لا غيرها.
سيكون هناك دعم استخباراتي، وتنسيق عسكري وعون لوجستي،
لكي يصبح اليمن ساحة حرب إضافية ومعلنة.
ويحق للقارئ أن يتساءل: ما البديل؟
البديل يكمن في أمرين اثنين: أولا: أن تقتنع الدول العربية، وعلى رأسها الخليجية،
أن ما يجري في اليمن هو شرارة تهدد الأمن الحيوي لهذه البلدان.
ثانيا: أن يدرك
الجميع أن المشكلة اليمنية قبل أن تكون مشكلة إرهاب «القاعدة» أو قضية حوثية ذات
تشعبات إيرانية أو قضية حراك جنوبي انفصالي، هي أولا وآخرا، وجع في الجسم اليمني،
هي اعتلال وفشل وظيفي لمنظومة الدولة.
لا فائدة من كل الحلول الخارجية، وبشكل
خاص العسكرية والأمنية منها، إذا لم تنطلق مقاربة الشأن اليمني من حقيقة ساطعة، وهي
أن الدولة اليمنية تكاد تكون فشلت في أداء وظائفها الرئيسية: توطيد وحدة البلاد،
وضمان أمنها، وتوفير الحد الأدنى من التنمية الذي يضمن استقرارها، وما يتطلبه ذلك
من عدل اجتماعي وتوزيع عادل للثروات (على قلتها).
لم تفلح السلطة في إقناع
الجنوبيين بمزايا الوحدة وصدقها، ولم تستطع احتواء الحوثيين، كما ظل تعاملها مع
جماعات المتشددين مرتبكا ومترددا، يتراوح بين التواطؤ تارة، والاستخدام الآني
أحيانا، والمواجهة العسكرية أحايين أخرى.
لا بد من الركون إلى أن القيادة
اليمنية (وليس ذلك من باب التشكيك في نياتها) قد ظلمت نفسها أولا وشعبها ثانيا،
فعلى الدول العربية، إذا كانت فعلا شقيقة، أن تعمل بمقتضى الحديث النبوي الشريف حول
نصرة الأخ ظالما كان أو مظلوما، فحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية
نصرته ظالما، قال: «تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره»، أو كما قال.
ما
يطلب من الإخوة العرب والخليجيين في المقام الأول هو تحرك من أجل إصلاح وترميم فشل
المنظومة السياسية اليمنية، بدلا من أن يترك الأمر بين أيدي دول غربية لن تأتي إلا
بحلول ناقصة ووعود لن تتحقق إلا بمقدار أجندتها وضرورياتها الراهنة.
على الدول
العربية أن تقنع القيادة في صنعاء أن حفنة من دولارات إضافية وسربا من الطائرات
العسكرية وعتادا وسلاحا، وطلعات جوية وتنسيقا مخابراتيا ودعما لوجستيا، ليست هي ما
سيعيد إلى اليمن عافيته وإلى الحكومة شرعيتها واستقرارها.
لن يأتي ذلك إلا بمزيد
من الفوضى ولن يقود إلا إلى استقطاب إضافي لعناصر التطرف وتمكينهم من ساحة بديلة
يقارعون فيها ما يطلقون عليه «جبروت الغرب» و«طغيانه»، ساحة تحميهم إذا ضُيّق عليهم
الخناق في أفغانستان أو في العراق أو في الصومال.
الحل هو أن يبادر العرب إلى
استكشاف الساحة اليمنية والعمل على كسب مزيد من الأوراق للتأثير في المسرح السياسي
والمجتمعي اليمني، الحل هو أن تفتح خطوط اتصال وتواصل مع جميع أطراف الصراع، ويتم
استدراجهم إلى حوار صريح وشفاف وجدّي.
الحل هو أن يتوزع العرب على الأدوار كما
فعلوا مع لبنان حين استطاعوا، في الطائف سابقا وفي الدوحة لاحقا، أن يجمعوا أطرافا
متصارعة حول طاولة توافق وحوار.
الحل هو أن يركن الجميع إلى أن اليمن لا يمكن أن
يُترك ليشكل بالون اختبار وساحة تجربة أخرى لسياسات مكافحة الإرهاب والتطرف، التي
تطبخ في واشنطن أو تصاغ في لندن.
الحل هو أن لا يترك الحوثيون، على غباء
تصرفاتهم وهمجية تسللهم إلى الأراضي السعودية، في وضع يجعلهم لا يرون في المنطقة
حلولا تسعهم، غير اللجوء إلى دعم إيران والاستقواء بها.
الحل هو أن لا توصد
أبواب العواصم العربية أمام عناصر الحراك الجنوبي فلا يروا في دول وحكومات المنطقة
سوى أنظمة تدعم الحكم المركزي في صنعاء للنيل منهم والقضاء عليهم، فلا يبقى لهم من
خيار إلا التحالف مع شيطان «القاعدة» ولواحقها لضمان البقاء.
الحل هو أن لا تكون
مواجهة الإرهاب والتطرف على التراب اليمني مواجهة عمياء تجري من أعالي شاشات
ورادارات طائرات «إف 15» التي ترمي صواريخها وقنابلها مستهدفة ما تظنه فلول
«القاعدة» والمتمردين، لتحصد في النهاية أرواح مدنيين عزل على أرض الواقع، فتتسع
بذلك دائرة التذمر ومساحات الفوضى.
على العرب أن يصارحوا القيادة في اليمن بأن
أوراق الحل - بكل أسف - لم تعد بيدها، بالكامل على الأقل، وأن انهيار هذا البلد
سيجر المنطقة إلى زعزعة وفوضى لا قبل لأحد بها، ولن يكون التذرع باستقلالية القرار
أو بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول مقبولا، لأن الخطر محدق ونذر تداعياته
توشك أن تكون أدهى وأمر.
هذا أوان الشد فاشتدي زيَمْ قد لفها الليل بسواق حطمْ
وإذا ما قُدر للعرب أن يعيدوا إلى الجسم اليمني تماسكه، وأن يفتحوا حوارا بين مختلف
أطيافه وقواه، عندها يمكن العودة إلى المنظومة الدولية، عندها يباح الحديث عن
الإعمار ومحاربة الفقر، عندها يكون على دول مجلس التعاون الخليجي، بشكل خاص، أن
يطوروا رؤية مبدعة وجادة لإخراج المواطن اليمني من فقره وتعاسته، وتعزيز أركان
الدولة اليمنية وحماية المنطقة من كابوس بؤرة توتر وفوضى إضافية.
وأعتقد أن أهل
اليمن يدركون أن من حق العرب عليهم أن لا يتركوهم وحدهم يواجهون مشكلات، يجمع الكل
اليوم على أن تعددها وتعقُّدها أكبر من أن تتصدى له دولة في عز قوتها وتماسكها،
فضلا عن أن تكون في حالة ترهل وتمزق.
ولا بأس أن نتذكر هنا المقولة الشهيرة التي
نُسبت إلى الرئيس عبد الله صالح عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول): «إذا لم
نحلق لأنفسنا فسيحلقون لنا».
إن موسم الحلاقة قد أزف، وأعتقد أن حلاقة وديعة على
الطريقة العربية الأصيلة، ستظل أنسب لليمنيين من أخرى على طريقة الكاوبوي الأميركي
أو الهوليغانز الإنجليز.