د. عبد
الوهاب الروحاني*
الوهاب الروحاني*
منذ ظهور قضية "الحراك السلمي" في المحافظات
الجنوبية والشرقية في فبراير 2007م، بتجمعات احتجاجية أولية في الضالع لمجاميع
صغيرة من الضباط والجنود المسرَّحين من الخدمة في القوات المسلحة، ظلت الدولة تنظر
إليها على أنها مجرد "أصوات خرقاء لمتضررين فقدوا مصالحهم، وسرعان ما
تزول"!!.
غير أن تلك التجمعات
التي تلقفتها معارضة الخارج باستبشار ولهفة، ولاقت هوى عند بعض القوى الإقليمية ما
لبثت أن نمت وتوسعت حتى أصبحت قضية كل المحافظات الجنوبية والشرقية، وشكلت قضية رأي
عام كبيرة، بدأت بمسيراتها الحاشدة، وبأصوات عالية تحاكم تجاهل الدولة لقضايا وهموم
الناس، وترفض أساليب الإقصاء والتهميش وفوضى الإدارة والفساد، حتى انتهى بها الأمر
إلى رفع الأعلام التشطيرية والدعوة ل"الإنفصال"، وما يسمى ب"فك الإرتباط"، وما
تبعه من قطع الطرق ونهب المسافرين واعتداءات وممارسات قتل بالهوية كما حدث في
العسكرية في يوليو 2009م، في ظل صمت مطبق من قبل أجهزة الدولة، الأمر الذي شكل
تطورا مخيفا، وأنذر- ولا يزال- بتداعيات خطيرة على مستقبل أمن الوحدة اليمنية
واستقرار البلاد.
وإذ بدأت الدولة "بطريقتها" تعالج قضية الحراك في المحافظات
الجنوبية والشرقية، لكنها بدأت متأخرة، وبطرق قديمة ومتخلفة، كتقديم العطايا
والإغراءات الفردية، الأمر الذي فاقم من قضية الحراك وطور من مطالبه تدريجيا، حتى
وجدت الدولة أن معظم محافظات الجمهورية قد بدأت تتأثربمعاناة وصراخ أخواتها، فهي
"الأخرى" تعاني من نفس المشاكل، ولذلك بدأت التجمعات الجهوية منذ نوفبمر2007م
تتشكل، وتعقد المؤتمرات القبلية في محافظات شمالية أيضا كعمران ومارب والبيضاء
والجوف وتعز والحديده. .
الخ، وهو الأمر الذي لا يزال ينذر بأبعاد جديدة
للأزمة.
وبالتحديد نستطيع القول إن هذا التنامي المتسارع لمشاعر العداء للوحدة
والنظام السياسي والدعوة للعودة إلى ما قبل 22 مايو1990م في المحافظات الجنوبية
والشرقية، يرجع إلى عدد من الأسباب نوجز أهمها في التالي: أولا: غياب رؤية
استراتيجية "ثقافية وتعليمية- وطنية": أي مشروع وطني عملاق لا بد أن يصاحب وجوده
رؤية استراتيجية تبحث في إمكانية نجاحه وتطويره وضمان استمراريته، وهو ما لم يحدث
بعد قيام دولة الوحدة اليمنية، أو- على الأقل- ليس هناك ما يؤكد إن كانت قد وجدت
رؤية مماثلة!!، لكن طالما أنها لم تجد طريقها إلى النور فوجودها كعدمه.
فقيام
دولة الوحدة اليمنية عام 1990م لم يكن عملاً سهلاً، بل كان مشروعا وطنيا كبيراً
وجباراً اختزل معالجة المشكلة اليمنية "السياسية والإقتصادية"، وحدد مسارات وتوجهات
اليمنيين الداخلية والخارجية.
ذلك لأن اليمن الموحد لا يمتلك فقط مقومات النماء
والتطور الإقتصادي، وإنما يمتلك أيضا مقومات جيوسياسية تؤهله- في حال توفر له الأمن
والإستقرار- لأن يكون دولة محورية يمكن أن تلعب دورا مهما على الصعيدين الإقليمي
والعربي.
وهو ما يدعونا إلى القول بأن الوحدة هي محور النهوض والتنمية، وأنه كان
يجب أن يتزامن قيامها عام 1990م مع وجود رؤية استراتيجية "ثقافية وتعليمية- وطنية"
تخضع للتطبيق لتسهم في الحفاظ على إنجاز الوحدة وترسيخ قيمها، وتعمل الدولة من
خلالها على تحقيق التالي: 1- تأصيل قيم روح الإنتماء الوطني عند أبناء الوطن
وبالذات الناشئة منهم.
2- إبراز الأهمية التأريخية والوطنية والإنسانية للوحدة
اليمنية، وانعكاساتها الإيجابية على بناء الدولة والمجتمع.
3- كشف معاناة
اليمنيين في ظل حقب التشطير والتمزق، وإبراز الصور المأساوية من ويلات التشظي
والإنقسام، والتأكيد على حقيقة "أن اليمن القوي والآمن والمتطور لا يمكن أن يتحقق
الا بالوحدة، وما دونها هو الاحتراب والقتل والدمار".
4- التأكيد على مفهوم أن
الوحدة اليمنية هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الأمن والاستقرار، وازدهارالحياة
الإقتصادية والإجتماعية، وتحسين الظروف المعيشية للمواطن اليمني.
ثانيا: سوء
وفساد الإدارة: لعب كثير من قادة العمل السياسي والإداري دوراً كبيراً في إفساد
الحياة العامة في كل المحافظات وفي كل مؤسسات الدولة، وتعاملوا في المحافظات
الجنوبية والشرقية بالذات مع كثير من القضايا السياسية والإدارية ليس من منظور
نظامي وقانوني، وإنما من منظور بسط النفوذ وإظهار القوة، متأثرين بأجواء وآثار حرب
1994م التي جرَّت نفسها بعلم أو بدون علم على مختلف الممارسات والمعاملات، مما أدى
إلى: 1- تعامل كثير من قادة العمل السياسي والإداري مع مواقعهم أو وظائفهم القيادية
بإعتبارها فرصة اللحظة الأخيرة للإفساد والكسب غير المشروع، فأطلقوا العنان
لممارساتهم الخاطئة، حتى وجد الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية أن كل
شيء حولهم أصبح في حكم المستباح.
2- إخضاع الوظيفة العامة للدولة لمعايير مزاجية
وغير قانونية تداخلت فيها اعتبارات القرابة والوساطة والمصلحة الخاصة، وحرم منها
أصحاب المصلحة الحقيقة من الكفاءات والخبرات والخريجين من الشباب.
3- خصخصة
الكثير من المؤسسات والشركات العامة وبيعها بأثمان بخسة لقاء مصالح متنفذين، ومن ثم
الإستغناء عن وظائف العاملين في هذه المؤسسات والشركات العامة، الأمر الذي فقدت معه
آلاف الأسر مصادر عيشها ودخولها الأساسية.
4- نهب الأراضي العامة والخاصة،
والبسط والسيطرة على الأملاك العامة من أراض ومبان جاهزة لمؤسسات ودوائر حكومية
مختلفة بداخل مدينة عدن نفسها، وبعض عواصم المحافظات الجنوبية والشرقية، واستملكوها
بأساليب وطرق مختلفة، وأخضعوها على مرآى ومسمع من الجميع للسمسرة دون أن يكون
للدولة وللقانون والنظام أي رأي فيها.
وهو ما حدث ويحدث أيضا في المحافظات
الشمالية، كأمانة العاصمة وصنعاء، والحديدة، وتعز.
5- تسريح ما سمّوا
ب"المتقاعدين" الضباط والجنود المشاركين في حرب 1994م من أبناء القوات المسلحة
وحرمانهم من مواصلة الخدمة في السلك العسكري، الأمر الذي ساعد على توسع وانتشار
البطالة في صفوف المواطنين من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية.
6- التعيينات
الإنتقائية لأبناء القادة والمتنفذين ولشخصيات غير مرغوبة من أبناء المحافظات
الجنوبية والشرقية خلقت حالة من السخط وعدم الرضى.
7- صرف الأموال والمكافآت
والهبات والسيارات والوظائف لبعض القيادات الجنوبية بهدف تهدئة الحركة المطلبية،
ولكنها تحولت إلى النقيض، وقادت إلى نتائج عكسية، حيث اندفع كثير من المستفيدين إلى
مقدمة صفوف الحراك.
وكانت نتيجة غير متوقعة لمعالجات خاطئة غير محسوبة
النتائج.
8- عدم التعاطي بجدية مع نتائج أعمال اللجان الرئاسية التي أفضت- بحسب
وسائل الإعلام- إلى مقترحات رأت فيها بعض المعالجات للمشاكل في المحافظات الجنوبية
والشرقية.
ثالثا: فرض التجارب الفاشلة في الإدارة المجتمعية: كان الناس في
المحافظات الجنوبية والشرقية قد قطعوا شوطا كبيرا في تجاوز التمييز بين الأسر
والأفراد والجماعات، وكانت الدوائر الرسمية في مناطقهم هي المرجع في حفظ النظام
وضبط التجاوزات ووأد الخصومات، غير أن إعادة إحياء وفرض الزعامات الإجتماعية
"الجديدة/ القديمة" خلق واقعا جديدا أثار ردود فعل عصبوية متناقضة أدت إلى التالي:
1- فقدان ثقة المواطن بالدوائر الحكومية والرسمية نتيجة ضعف وتضاؤل دورها في ضبط
إيقاع الحياة العامة مقابل تنامي وتعدد الولاءات العشائرية والقبلية.
2- ظهور
بعض الزعامات الإجتماعية- التي حظيت وتحظى بدعم مادي ومعنوي، وتأييد كبير من قبل
قيادات الدولة- ليس فقط في وضع الآمرين الناهين والمستحكمين في شؤون مناطقهم، وإنما
باعتبارهم البديل الشرعي للنظام والقانون أيضا، الأمر الذي أسهم بشكل أو بآخر في
إيقاظ وتنامي مشاعر السخط والتذمر من غياب الدولة في وسط اجتماعي بدأ يفقد تدريجيا
مصادر دخله وإمكانياته الأساسية.
3- عودة ظاهرة الثأر والتقطع وإقلاق الحالة
الأمنية في هذه المناطق بفعل تأثير المتنفذين من القوى الإجتماعية والسياسية.
4-
تهيُؤ البيئة الإجتماعية أمام زعامات "الحراك الجنوبي" التي لاقت دعواتها استجابةَ
والتفاف كل المتضررين من تفاقم الأوضاع الإقتصادية والمعيشية وانتشار ظاهرة الفساد
الوظيفي؛ ووجد هؤلاء المتضررون أن محاولة التخندق ضد الدولة والوحدة "ربما" يكون هو
المخرج من معاناتهم.
إن الوضع المتأزم في المحافظات الجنوبية والشرقية التي يكاد
يكون النظام فيها غائبا، وينفلت الوضع الأمني بصورة لم يسبق لها مثيل، هو نتيجة
طبيعية للأسباب والحيثيات السابقة التي أدت إلى نشوء ظاهرة الحراك في هذه المحافظات
والتي تحولت بالتدريج من حِراك مطلبي إلى سياسي ومن ثم إلى انفصالي.
وهذه
الظاهرة التي تتفاعل أحداثها بالتزامن مع ظهور قوي لما يسمى ب"تنظيم القاعدة" في
شبوة وأبين، وبعض المحافظات الشمالية الشرقية، وتطورات حرب صعدة في أقصى الشمال قد
يقود البلاد إلى كارثة حقيقية، حيث يمكن أن يصبح اليمن، ليس فقط أشلاء صغيرة ممزقة
وساحة واسعة لحروب طويلة لا نهاية لها، وإنما يمكن أن يصبح أيضا مصدرا حقيقيا
للتوتر وزعزعة أمن واستقرار الجزيرة والخليج، والملاحة الدولية في خليج عدن
والبحرين، العربي والأحمر، عموما.
ومن هنا، وبالعودة إلى تشخيص مشكلة الحراك
السياسي في المحافظات الجنوبية والشرقية وأسبابها- كما بينا سابقا- يمكن تدارك
التداعيات الخطيرة المحتملة، من خلال البحث عن الحلول والمعالجات العملية
والجادة.
غير أن ذلك لا يمكن أن يتأتى إلاّ إذا ما توفر عاملان رئيسيان هما: -
الحرص على المصلحة الوطنية، وتغليب اليمن "الأرض والإنسان والوحدة" على المصالح
الأنانية والشخصية.
- توفر إرادة المصالحة والتوافق لدى قيادة الدولة وأطراف
القضية الجنوبية واليمنية عموما في الداخل والخارج.
وليتم في ضوء هذين العاملين
الوقوف أمام كل حيثيات وأسباب المشكلة على طاولة حوار وطني مسؤول، بعيدا عن لغة
التخوين والتمترس، وفرض الشروط والإملاءات المقوضة لأي تفاهم وحوار.
فالوحدة
اليمنية التي كانت حلم كل اليمنيين وقواهم السياسية لم تتحقق إلاّ بالحوار
والتفاهم، لكن الحقيقة المرة التي يجب أن يستوعبها أطراف العملية السياسية هي أن
قيام دولة الوحدة ارتبط أيضا بشرط الديمقراطية، وهو ما يدعو الجميع "سلطة ومعارضة"
إلى الالتزام بهذا العهد والوفاء به.
* عضو مجلس الشورى ورئيس مركز الوحدة
للدراسات الإستراتيجية العرب أونلاين
الجنوبية والشرقية في فبراير 2007م، بتجمعات احتجاجية أولية في الضالع لمجاميع
صغيرة من الضباط والجنود المسرَّحين من الخدمة في القوات المسلحة، ظلت الدولة تنظر
إليها على أنها مجرد "أصوات خرقاء لمتضررين فقدوا مصالحهم، وسرعان ما
تزول"!!.
غير أن تلك التجمعات
التي تلقفتها معارضة الخارج باستبشار ولهفة، ولاقت هوى عند بعض القوى الإقليمية ما
لبثت أن نمت وتوسعت حتى أصبحت قضية كل المحافظات الجنوبية والشرقية، وشكلت قضية رأي
عام كبيرة، بدأت بمسيراتها الحاشدة، وبأصوات عالية تحاكم تجاهل الدولة لقضايا وهموم
الناس، وترفض أساليب الإقصاء والتهميش وفوضى الإدارة والفساد، حتى انتهى بها الأمر
إلى رفع الأعلام التشطيرية والدعوة ل"الإنفصال"، وما يسمى ب"فك الإرتباط"، وما
تبعه من قطع الطرق ونهب المسافرين واعتداءات وممارسات قتل بالهوية كما حدث في
العسكرية في يوليو 2009م، في ظل صمت مطبق من قبل أجهزة الدولة، الأمر الذي شكل
تطورا مخيفا، وأنذر- ولا يزال- بتداعيات خطيرة على مستقبل أمن الوحدة اليمنية
واستقرار البلاد.
وإذ بدأت الدولة "بطريقتها" تعالج قضية الحراك في المحافظات
الجنوبية والشرقية، لكنها بدأت متأخرة، وبطرق قديمة ومتخلفة، كتقديم العطايا
والإغراءات الفردية، الأمر الذي فاقم من قضية الحراك وطور من مطالبه تدريجيا، حتى
وجدت الدولة أن معظم محافظات الجمهورية قد بدأت تتأثربمعاناة وصراخ أخواتها، فهي
"الأخرى" تعاني من نفس المشاكل، ولذلك بدأت التجمعات الجهوية منذ نوفبمر2007م
تتشكل، وتعقد المؤتمرات القبلية في محافظات شمالية أيضا كعمران ومارب والبيضاء
والجوف وتعز والحديده. .
الخ، وهو الأمر الذي لا يزال ينذر بأبعاد جديدة
للأزمة.
وبالتحديد نستطيع القول إن هذا التنامي المتسارع لمشاعر العداء للوحدة
والنظام السياسي والدعوة للعودة إلى ما قبل 22 مايو1990م في المحافظات الجنوبية
والشرقية، يرجع إلى عدد من الأسباب نوجز أهمها في التالي: أولا: غياب رؤية
استراتيجية "ثقافية وتعليمية- وطنية": أي مشروع وطني عملاق لا بد أن يصاحب وجوده
رؤية استراتيجية تبحث في إمكانية نجاحه وتطويره وضمان استمراريته، وهو ما لم يحدث
بعد قيام دولة الوحدة اليمنية، أو- على الأقل- ليس هناك ما يؤكد إن كانت قد وجدت
رؤية مماثلة!!، لكن طالما أنها لم تجد طريقها إلى النور فوجودها كعدمه.
فقيام
دولة الوحدة اليمنية عام 1990م لم يكن عملاً سهلاً، بل كان مشروعا وطنيا كبيراً
وجباراً اختزل معالجة المشكلة اليمنية "السياسية والإقتصادية"، وحدد مسارات وتوجهات
اليمنيين الداخلية والخارجية.
ذلك لأن اليمن الموحد لا يمتلك فقط مقومات النماء
والتطور الإقتصادي، وإنما يمتلك أيضا مقومات جيوسياسية تؤهله- في حال توفر له الأمن
والإستقرار- لأن يكون دولة محورية يمكن أن تلعب دورا مهما على الصعيدين الإقليمي
والعربي.
وهو ما يدعونا إلى القول بأن الوحدة هي محور النهوض والتنمية، وأنه كان
يجب أن يتزامن قيامها عام 1990م مع وجود رؤية استراتيجية "ثقافية وتعليمية- وطنية"
تخضع للتطبيق لتسهم في الحفاظ على إنجاز الوحدة وترسيخ قيمها، وتعمل الدولة من
خلالها على تحقيق التالي: 1- تأصيل قيم روح الإنتماء الوطني عند أبناء الوطن
وبالذات الناشئة منهم.
2- إبراز الأهمية التأريخية والوطنية والإنسانية للوحدة
اليمنية، وانعكاساتها الإيجابية على بناء الدولة والمجتمع.
3- كشف معاناة
اليمنيين في ظل حقب التشطير والتمزق، وإبراز الصور المأساوية من ويلات التشظي
والإنقسام، والتأكيد على حقيقة "أن اليمن القوي والآمن والمتطور لا يمكن أن يتحقق
الا بالوحدة، وما دونها هو الاحتراب والقتل والدمار".
4- التأكيد على مفهوم أن
الوحدة اليمنية هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الأمن والاستقرار، وازدهارالحياة
الإقتصادية والإجتماعية، وتحسين الظروف المعيشية للمواطن اليمني.
ثانيا: سوء
وفساد الإدارة: لعب كثير من قادة العمل السياسي والإداري دوراً كبيراً في إفساد
الحياة العامة في كل المحافظات وفي كل مؤسسات الدولة، وتعاملوا في المحافظات
الجنوبية والشرقية بالذات مع كثير من القضايا السياسية والإدارية ليس من منظور
نظامي وقانوني، وإنما من منظور بسط النفوذ وإظهار القوة، متأثرين بأجواء وآثار حرب
1994م التي جرَّت نفسها بعلم أو بدون علم على مختلف الممارسات والمعاملات، مما أدى
إلى: 1- تعامل كثير من قادة العمل السياسي والإداري مع مواقعهم أو وظائفهم القيادية
بإعتبارها فرصة اللحظة الأخيرة للإفساد والكسب غير المشروع، فأطلقوا العنان
لممارساتهم الخاطئة، حتى وجد الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية أن كل
شيء حولهم أصبح في حكم المستباح.
2- إخضاع الوظيفة العامة للدولة لمعايير مزاجية
وغير قانونية تداخلت فيها اعتبارات القرابة والوساطة والمصلحة الخاصة، وحرم منها
أصحاب المصلحة الحقيقة من الكفاءات والخبرات والخريجين من الشباب.
3- خصخصة
الكثير من المؤسسات والشركات العامة وبيعها بأثمان بخسة لقاء مصالح متنفذين، ومن ثم
الإستغناء عن وظائف العاملين في هذه المؤسسات والشركات العامة، الأمر الذي فقدت معه
آلاف الأسر مصادر عيشها ودخولها الأساسية.
4- نهب الأراضي العامة والخاصة،
والبسط والسيطرة على الأملاك العامة من أراض ومبان جاهزة لمؤسسات ودوائر حكومية
مختلفة بداخل مدينة عدن نفسها، وبعض عواصم المحافظات الجنوبية والشرقية، واستملكوها
بأساليب وطرق مختلفة، وأخضعوها على مرآى ومسمع من الجميع للسمسرة دون أن يكون
للدولة وللقانون والنظام أي رأي فيها.
وهو ما حدث ويحدث أيضا في المحافظات
الشمالية، كأمانة العاصمة وصنعاء، والحديدة، وتعز.
5- تسريح ما سمّوا
ب"المتقاعدين" الضباط والجنود المشاركين في حرب 1994م من أبناء القوات المسلحة
وحرمانهم من مواصلة الخدمة في السلك العسكري، الأمر الذي ساعد على توسع وانتشار
البطالة في صفوف المواطنين من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية.
6- التعيينات
الإنتقائية لأبناء القادة والمتنفذين ولشخصيات غير مرغوبة من أبناء المحافظات
الجنوبية والشرقية خلقت حالة من السخط وعدم الرضى.
7- صرف الأموال والمكافآت
والهبات والسيارات والوظائف لبعض القيادات الجنوبية بهدف تهدئة الحركة المطلبية،
ولكنها تحولت إلى النقيض، وقادت إلى نتائج عكسية، حيث اندفع كثير من المستفيدين إلى
مقدمة صفوف الحراك.
وكانت نتيجة غير متوقعة لمعالجات خاطئة غير محسوبة
النتائج.
8- عدم التعاطي بجدية مع نتائج أعمال اللجان الرئاسية التي أفضت- بحسب
وسائل الإعلام- إلى مقترحات رأت فيها بعض المعالجات للمشاكل في المحافظات الجنوبية
والشرقية.
ثالثا: فرض التجارب الفاشلة في الإدارة المجتمعية: كان الناس في
المحافظات الجنوبية والشرقية قد قطعوا شوطا كبيرا في تجاوز التمييز بين الأسر
والأفراد والجماعات، وكانت الدوائر الرسمية في مناطقهم هي المرجع في حفظ النظام
وضبط التجاوزات ووأد الخصومات، غير أن إعادة إحياء وفرض الزعامات الإجتماعية
"الجديدة/ القديمة" خلق واقعا جديدا أثار ردود فعل عصبوية متناقضة أدت إلى التالي:
1- فقدان ثقة المواطن بالدوائر الحكومية والرسمية نتيجة ضعف وتضاؤل دورها في ضبط
إيقاع الحياة العامة مقابل تنامي وتعدد الولاءات العشائرية والقبلية.
2- ظهور
بعض الزعامات الإجتماعية- التي حظيت وتحظى بدعم مادي ومعنوي، وتأييد كبير من قبل
قيادات الدولة- ليس فقط في وضع الآمرين الناهين والمستحكمين في شؤون مناطقهم، وإنما
باعتبارهم البديل الشرعي للنظام والقانون أيضا، الأمر الذي أسهم بشكل أو بآخر في
إيقاظ وتنامي مشاعر السخط والتذمر من غياب الدولة في وسط اجتماعي بدأ يفقد تدريجيا
مصادر دخله وإمكانياته الأساسية.
3- عودة ظاهرة الثأر والتقطع وإقلاق الحالة
الأمنية في هذه المناطق بفعل تأثير المتنفذين من القوى الإجتماعية والسياسية.
4-
تهيُؤ البيئة الإجتماعية أمام زعامات "الحراك الجنوبي" التي لاقت دعواتها استجابةَ
والتفاف كل المتضررين من تفاقم الأوضاع الإقتصادية والمعيشية وانتشار ظاهرة الفساد
الوظيفي؛ ووجد هؤلاء المتضررون أن محاولة التخندق ضد الدولة والوحدة "ربما" يكون هو
المخرج من معاناتهم.
إن الوضع المتأزم في المحافظات الجنوبية والشرقية التي يكاد
يكون النظام فيها غائبا، وينفلت الوضع الأمني بصورة لم يسبق لها مثيل، هو نتيجة
طبيعية للأسباب والحيثيات السابقة التي أدت إلى نشوء ظاهرة الحراك في هذه المحافظات
والتي تحولت بالتدريج من حِراك مطلبي إلى سياسي ومن ثم إلى انفصالي.
وهذه
الظاهرة التي تتفاعل أحداثها بالتزامن مع ظهور قوي لما يسمى ب"تنظيم القاعدة" في
شبوة وأبين، وبعض المحافظات الشمالية الشرقية، وتطورات حرب صعدة في أقصى الشمال قد
يقود البلاد إلى كارثة حقيقية، حيث يمكن أن يصبح اليمن، ليس فقط أشلاء صغيرة ممزقة
وساحة واسعة لحروب طويلة لا نهاية لها، وإنما يمكن أن يصبح أيضا مصدرا حقيقيا
للتوتر وزعزعة أمن واستقرار الجزيرة والخليج، والملاحة الدولية في خليج عدن
والبحرين، العربي والأحمر، عموما.
ومن هنا، وبالعودة إلى تشخيص مشكلة الحراك
السياسي في المحافظات الجنوبية والشرقية وأسبابها- كما بينا سابقا- يمكن تدارك
التداعيات الخطيرة المحتملة، من خلال البحث عن الحلول والمعالجات العملية
والجادة.
غير أن ذلك لا يمكن أن يتأتى إلاّ إذا ما توفر عاملان رئيسيان هما: -
الحرص على المصلحة الوطنية، وتغليب اليمن "الأرض والإنسان والوحدة" على المصالح
الأنانية والشخصية.
- توفر إرادة المصالحة والتوافق لدى قيادة الدولة وأطراف
القضية الجنوبية واليمنية عموما في الداخل والخارج.
وليتم في ضوء هذين العاملين
الوقوف أمام كل حيثيات وأسباب المشكلة على طاولة حوار وطني مسؤول، بعيدا عن لغة
التخوين والتمترس، وفرض الشروط والإملاءات المقوضة لأي تفاهم وحوار.
فالوحدة
اليمنية التي كانت حلم كل اليمنيين وقواهم السياسية لم تتحقق إلاّ بالحوار
والتفاهم، لكن الحقيقة المرة التي يجب أن يستوعبها أطراف العملية السياسية هي أن
قيام دولة الوحدة ارتبط أيضا بشرط الديمقراطية، وهو ما يدعو الجميع "سلطة ومعارضة"
إلى الالتزام بهذا العهد والوفاء به.
* عضو مجلس الشورى ورئيس مركز الوحدة
للدراسات الإستراتيجية العرب أونلاين