إبراهيم غالي
أوضح الجزء الأول من هذه الدراسة أن مفهوم "الدولة اليهودية" لم يغب يوما عن ذهن مخططي الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر، وأنه وفقا لهذا المفهوم تأسست دولة إسرائيل بالقوة في عام 1948 لتكون مكانا يجمع يهود العالم (أو هكذا افترض أن تكون).
وتناول النشأة التاريخية لفكرة "يهودية" إسرائيل وكيف تشبث بها مؤسسو الدولة العبرية منذ التأسيس حيث تعمد قادة إسرائيل تقنين العديد من الإجراءات والقوانين التي تسعى إلى "تهويد" المكان والإنسان العربي وإجبار فلسطيني 48 إما على المكوث في دولة يكونون بها مواطنين من الدرجة الثالثة، وإما على الرحيل ومغادرة أراضيهم.
ويتعرض هذا الجزء للتحول الذي أصاب الفكرة الصهيونية "الدينية" القومية لينتقل بها على يد أرئيل شارون إلى واقع أمني وديموجرافي يشكل ما يمكن اعتباره "صهيونية أمنية - سكانية" بالأساس لا تخلو كذلك من أغراض دينية واضحة.
ثانياً: "يهودية" إسرائيل. . نيو صهيونية أمنية
بقيت الذهنية الإسرائيلية منذ النشأة مسكونة بهاجس صهيوني يقوم على التوسع الجغرافي والسكاني، فحدث التوسع الأول في حرب 1967، فيما كان الثاني توسعا داخليا استمر من خلال مصادرة الأراضي العربية واستقدام مزيد من يهود العالم.
ومثلت نتائج هذه الحرب منعطفا تاريخيا في تاريخ التوسع الصهيوني الذي حقق أقصى اتساع له، وظنً أنه بلغ إلى الحدود الآمنة، وللمرة الأولى يجد معظم الفصائل القومية للحركة الصهيونية المتطرفة، ومنهم المسيحيون الصهيونيون، أنه بات من الممكن عمليا إقامة بني إسرائيل على إيرتز (أرض الميعاد باللغة العبرية) بكاملها، من النيل إلى الفرات، وليس على الجزء الأضيق الذي يقتصر على منطقة ما بين البحر ونهر الأردن.
بيد أن حرب أكتوبر 1973، وما أفرزته من نتائج عسكرية ثم سياسية، كانت الدليل الأبرز على أن فكرة أرض الميعاد (الكبرى) لا تعدو كونها حلماً صهيونياً لن يمكن تحقيقه، علاوة على أن بداية الحديث عن أجواء للسلام بين العرب وإسرائيل منذ مبادرة روجرز في عام 1970 عُدً دليلاً إضافياً على أن الإسرائيليين لن يمكنهم أن يعيشوا وسط محيط من العداء العربي دون الاعتراف بدولتهم، والذي يقتضي تنازلات كبرى في سبيل تحقيق غاية البقاء "الآمن"، ولو ضمن التعريف الأضيق لأرض الميعاد.
ومع دخول مصر في عملية السلام مع إسرائيل، بدأ الحديث يتلاشى إسرائيليا عن مفهوم إسرائيل الكبرى جغرافياً ليتحول إلى مفهوم إسرائيل المتوسعة استيطانياً والمحصنة أمنياً، كما بدت هناك قناعة داخل معظم قطاعات عريضة من القوى الإسرائيلية بضرورة التوصل لصيغة حل وسط يجمع بين الحد الأقصى من "الأمن" و"الأرض"، وبين الحد الأدنى من السكان الفلسطينيين العرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي بحيث تتم إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين جميعهم في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، أي تسلم المناطق الآهلة بكثافة سكانية عربية إلى إدارة عربية أو حتى فلسطينية.
سقوط حلم أرض الميعاد
وهنا يمكن القول إن الصهيونية التقليدية التي طبعت بالغطاء الديني الصرف قد بدأت في التحول إلى نيو - صهيونية "أمنية" تقوم على تحقيق الحد الأقصى من الأمن، دون أن تغفل البعد الديني، سيما وأن الكثير من الإسرائيليين، سواء من اليمين الديني أو العلماني، يرفض بصورة مطلقة التنازل عن أية منطقة ضمن حدود أرض إسرائيل "التاريخية".
ويظهر هذا البعد بوضوح فيما يكشفه مؤلف كتاب "أرض إسرائيل الكاملة"، أرييه نائور، الأستاذ بجامعة بن جوريون، وعمل سابقا سكرتيرا خاصا بحكومة مناحيم بيجين، عن مخطط شارون السري إبان غزو لبنان عام 1982، حيث يقول: "هذا المخطط الذي هدف إليه شارون هو احتلال لبنان ومن ثم إخراج اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن، وبالتالي دعم إقامة الدولة الفلسطينية كوطن بديل للفلسطينيين". ويؤكد نائور على أن "مخططات شارون في اجتياح لبنان وفي تشجيع الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 لم تنبع انطلاقاً من إيمان شارون بفكرة أرض إسرائيل الكبرى، لأنه لا يمكن اعتبار شارون يؤمن بأيديولوجيا دينية، وإنما من خلال اعتقاده بأنه من الضروري الحفاظ على المناطق والاستيطان في كل مكان ممكن لأنه بذلك تكون إسرائيل أقوى وأكبر".
إسرائيل إذن ومنذ انطلاق عملية التسوية، سعت لاعتراف الأطراف العربية بها كدولة ستعمل في كل حال على توفير أقصى درجات الأمن، وتحقيق أدنى حد من الوجود العربي داخلها. وقد تعزز هذا التوجه مع الفشل الإسرائيلي في قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 - 1993)، ثم مع انطلاق مسيرة التفاوض مع الفلسطينيين منذ العام 1991، وهو ذات العام الذي ألغت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 16 ديسمبر قرار اعتبار الصهيونية حركة عنصرية.
في هذا السياق مثل اتفاق أوسلو (13 سبتمبر 1993) بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بداية الانحسار للفكرة الصهيونية، بمعناها الأوسع، لأنه وبغض الطرف عن بعض سلبيات الاتفاق أو عدم استكمال مسيرة أوسلو فيما بعد، فإن الاتفاق في حد ذاته كان بمثابة تطبيق لفكرة منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً في الضفة الغربية وغزة لحين قيام دولة فلسطينية، كما أنه نظرياً قد فرض على إسرائيل ما يشبه الحدود لأول مرة في تاريخها، حتى وإن كان هناك، من الناحية العملية، اتفاق عام بين كافة القوى - والمشاريع- الإسرائيلية على عدم الانسحاب الكامل وضم أجزاء تعدها إسرائيل مهمة من الضفة الغربية إلى إسرائيل بصورة نهائية، واعتبار ضم القدس أمرا مفروغا منه، وشبه إجماع على عدم الانسحاب من مرتفعات الجولان أو الانسحاب منها بشروط تعجيزية تضمن التطبيع والأمن الكاملين لإسرائيل مع سوريا.
والثابت في كافة هذه المراحل، حربياً وسلمياً، بين إسرائيل والعرب، أن إسرائيل كانت تطبق على أرض الواقع سياسة تقوم على "يهودية الدولة" في ناحية التعاطي مع فلسطيني 48 و67، إلا أنها لم تطلب قط الاعتراف بها كدولة "يهودية" منذ انطلاق التفاوض مع مصر، ثم الأردن، ثم منظمة التحرير الفلسطينية والتي توقفت في العام 2000، بل نالت اعترافا عربيا بوجودها كدولة أو كما جاء في وثيقة أوسلو عبارة فضفاضة هي (حق إسرائيل في الوجود).
ولا يعني ذلك أن الحلم الصهيوني بفكرة إسرائيل الكبرى قد ألغي، على الأقل عاطفيا وأيديولوجيا، من ذاكرة بعض أقطاب اليمين الإسرائيلي؛ فقد صرح رئيس الوزراء إسحق شامير في لحظة تأثر وجداني عميق ساعة تدفق المهاجرين السوفيت في مطلع التسعينات بأن "إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي وحلمي شخصيا"، وأنه "بدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم". بل إن كل قادة إسرائيل، سواء من العمل أو الليكود، ومنذ انطلاق التسوية مع الفلسطينيين في بداية التسعينات يصورون أمام الرأي العام الدولي أنهم يتخلون عن جزء من أرض الميعاد ويقدمون تنازلات مؤلمة لأجل السلام. وداخل حزب الليكود لا يوجد منذ سقوط إسحق شامير في عام 1992 من يتحدث عن أرض إسرائيل الكبرى بالمفهوم الأيديولوجي، فما تبقى لليكود من أيديولوجية أرض إسرائيل الكاملة هو الادعاء الأمني فقط، حيث أن رئيسين من رؤساء الحكومة عن الليكود ما بعد اتفاقيات أوسلو (مرحلة التسعينات)، نتنياهو وشارون، استمرا في عملية التسوية السياسية كل حسب أسلوبه الخاص.
وكما سبق لم تطالب إسرائيل في أي وقت خلال مسيرة المفاوضات مع الأطراف العربية ب "يهودية" الدولة ولم تكن شرطا رئيسا في أي مفاوضات، بل لم تسعَ إسرائيل لاعتراف الأطراف الغربية بهذا الأمر الذي لا يزال يتكرس رويدا رويدا على أرض الواقع من خلال سياسة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس واعتماد سياسة تضييق الخناق على عرب الداخل.
صهيونية شارون. . أمنية وديموجرافية
وفي حمأة توقف عملية التسوية منذ أواخر العام 2000، وانطلاق الانتفاضة الثانية، ثم أحداث 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من إعلان الحرب الأمريكية ضد "الإرهاب" والاستعداد الأمريكي لاحتلال العراق، طرح الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش رؤيته لحل الدولتين في 24 يونيو 2002، ووافقت عليها الرباعية الدولية في 20 ديسمبر من نفس العام، لكنها لم تعلن رسميا من قبل وزارة الخارجية الأمريكية إلا في 30 إبريل 2003 (أي بعد غزو العراق).
عند هذا الحد، بدأت أفكار شارون النيو صهيونية تتبلور بشكل واضح، إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية يوم 25 مايو 2003 على خطة خارطة الطريق، وأرفقت هذه الموافقة بالتحفظات الأربعة عشر، التي وعدت إدارة بوش أن تأخذها في الاعتبار بكامل الجدية، لكن أن يتضمن هذا الوعد ضمانا لجميع الطلبات الإسرائيلية، وكان من بين هذه التحفظات ما يلي :
التحفظ رقم (6): "فيما يتعلق بكل من الإعلانات الافتتاحية والختامية، يجب تضمينها الإشارة إلى حق إسرائيل بالوجود كدولة يهودية، والتنازل عن أي حق في العودة (للفلسطينيين) إلى دولة إسرائيل".
التحفظ رقم (5): "تحدد سمة الدولة الفلسطينية الانتقالية بالتفاوض بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ويكون للدولة الانتقالية حدودا انتقالية وبعض مظاهر السيادة، وأن تكون منزوعة السلاح بشكل كامل دون قوات عسكرية، ولن يكون لها صلاحية عقد التحالفات الدفاعية أو التعاون العسكري، والإشراف الإسرائيلي على دخول وخروج جميع الأشخاص والبضائع، وكذلك في مجالي الجو والمجال الإلكترومغناطيسي.
التحفظ رقم (9): "لن يكون هناك إشراك لقضايا تعود للحل النهائي. ومن ضمن القضايا التي لا تناقش: المستوطنات في يهودا والسامرة وغزة (باستثناء تجميد الاستيطان والنقاط غير القانونية)، ووضع السلطة الفلسطينية ومؤسساتها في القدس، وكل القضايا الأخرى التي يتصل جوهرها بالتسوية النهائية.
التحفظ رقم (10): "شطب المرجعيات باستثناء القرارين 242 و338. فتسوية على أساس خارطة الطريق هي تسوية مستقلة بذاتها، وتؤخذ الصلاحيات منها. المرجع الوحيد الممكن هو القراران السابقان كخط عام لإدارة المفاوضات المستقبلية حول التسوية الدائمة.
التحفظ رقم (14): "تدعم الدول العربية هذا المسار عبر إدانة النشاط الإرهابي. ولا تقام أية صلة بين المسار الفلسطيني مع المسارات الأخرى (السورية اللبنانية).
وإجمالا فإن شارون وضع هذه التحفظات ليهرب من استحقاقات خارطة الطريق والاكتفاء منها فقط فيما يخض وضع حد للعمليات "الإرهابية" التي يقوم بها الفلسطينيون دون التقيد بوقف الاستيطان أو قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا يمكنها الحياة.
وبناءً على هذه التحفظات، ظهر مصطلح "يهودية" إسرائيل لأول مرة وبشكل علني من قبل الرئيس الأمريكي بوش في قمة شرم الشيخ يوم 3 يونيو 2003، ثم في قمة العقبة في اليوم التالي مباشرة، حينما أعلن التزام بلاده بضمان أمن "إسرائيل" كدولة يهودية نابضة بالحياة، في تعبير واضح عن تبني واشنطن لمعظم التحفظات ال14 للحكومة الإسرائيلية على خطة خريطة الطريق.
وتزامنا مع ذلك، أقر الكنيست يوم 16 يوليو 2003 (أي بعد أيام من إعلان بوش السابق) مشروع قرار تقدمت به كتلة الليكود، يقضي ب "ضرورة تعميق فكرة يهودية الدولة وتعميمها على دول العالم ومحاولة انتزاع موقف فلسطيني إلى جانب القرار المذكور.
وقد تضمن القرار أيضا إشارات إلى أن الضفة الغربية وقطاع غزة ليست مناطق محتلة، لا من الناحية التاريخية، ولا من ناحية القانون الدولي، ولا بموجب الاتفاقيات التي وقعتها "إسرائيل". ودعا القرار إلى مواصلة تعزيز المستوطنات وتطويرها، وإلى التمسك بالخطوط الحمراء، وفي مقدمتها السيادة المطلقة على القدس بشقيها الغربي والشرقي المحتلين في عامي 1948 و1967، والاحتفاظ كذلك بالمناطق الأمنية.
أكثر من، فإن شارون وهو يعيد هذا المصطلح القديم الجديد، ذهب إلى القول بأن حدود إسرائيل هي من البحر الأبيض المتوسط في الغرب إلى نهر الأردن في الشرق، ولن تكون إسرائيل إلا دولة يهودية نقية وهي لليهود في إسرائيل وكل العالم".
وقد وضح هذا التوجه جلياً بعد أشهر قليلة من إعلان خطة خارطة الطريق؛ ففي مؤتمر "ميزان المناعة والأمن القومي" (مؤتمر هرتزيليا) الرابع، تحدث شارون يوم 18 ديسمبر 2003 للمرة الأولى عن خطته لفك الارتباط واتخاذ إسرائيل خطوة أمنية من طرف واحد لفك الارتباط مع الفلسطينيين، وذكر أنها "خطة ترمي إلى منح الحد الأقصى من الأمن لإسرائيل وإلى خلق الحد الأدنى من الاحتكاك بين إسرائيل والفلسطينيين".
وأكد شارون في هذا المؤتمر على أن "مهمتنا جميعا هي تصميم وجه إسرائيل اليهودية والديمقراطية. . دولة تستوعب هجرة تشكل مركزا روحيا وقوميا لكل يهود العالم وبؤرة جذب لعشرات آلاف المهاجرين كل عام. الهجرة هي الهدف المركزي لدولة إسرائيل".
وبالفعل طرح شارون النسخة الأولى من خطة فك الارتباط يوم 14 إبريل 2004، وهو نفس اليوم الذي تبادل فيه رسالة الضمانات مع الرئيس الأمريكي بوش، حيث اعترف بوش لإسرائيل بحقها المزعوم بضم أجزاء من الضفة الغربية وبحقها في رفض الانسحاب إلى حدود يونيو 1967، قائلا: "المستوطنات باتت أمرا واقعا، والحدود المذكورة ليست بالمقابل أمرا واقعا. وقد وافقت الحكومة الإسرائيلية على الخطة في نسختها النهائية يوم 6 يونيو 2004، وتم الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في أغسطس عام 2005.
لقد أقام شارون بتلك الخطوات نوعا يمكن أن يطلق عليه "نيو صهيونية أمنية" ذات بعد ديني أيضا، أو أنه المؤسس الحقيقي لمبدأ "يهودية" إسرائيل؛ فمخططات شارون منذ وصوله للسلطة في عام 2001 ثم إعادة انتخابه في عام 2003 حتى اختفائه عن المسرح السياسي في أواخر عام 2005، هي ما أسست لتكريس واقع "يهودية" الدولة فعليا ونقلها من الإطار النظري - الأيديولوجي إلى النطاق العملي الخالص.
وواقعياً، فإن شارون وإن طغت على أفكاره الأبعاد الأمنية والإستراتيجية، إنما لم يتخلى عن البعد الديني في طرحه ل "يهودية" إسرائيل، وجعلها مكانا لكل يهود العالم، فشارون هنا يمثل الصهيونية الجغرافية بمعناها الأضيق، أي أن أرض إسرائيل هي المنطقة ما بين البحر ونهر الأردن؛ ما يعني أن الانسحاب من غزة ما هو إلا تخلص من مشكلة أمنية وديموجرافية فلسطينية، في حين سيجري السيطرة على معظم أراضي الضفة الغربية وضم القدس تدريجيا بشكل نهائي، ورفض تام لعودة اللاجئين، ومجرد إقامة ما يشبه الكيان الذاتي للفلسطينيين في غزة وبعض مناطق مفصولة عن بعضها البعض في الضفة الغربية بعد أن يستقطع الجدار العازل والتمدد الاستيطاني معظم أراضيها، وبحيث يستحيل التواصل والتلاصق بين الضفة والقطاع من جانب وبين الضفة والقدس من جانب آخر.
وعلى الناحية الأخرى لم يغفل شارون الصهيونية السكانية أيضا، إذ وضع شارون مخططات مختلفة لاستقدام أكثر من مليون يهودي لإسرائيل خلال أعوام قليلة، كما بدأت حكومته سلسلة من الإجراءات لمحاولة "أسرلة" عرب 1948، وتم فرض المزيد من القوانين العنصرية ضدهم، وبدأ الحديث يعود مجددا لمبدأ تبادل الأراضي في أي تسوية دائمة مع الفلسطينيين بحيث يتم عملية تهجير "ترانسفير" لفلسطيني 48، ويكونون جزءا من الكيان الفلسطيني الذاتي، الذي سيطلق عليه إن قام، استثناءً، اسم "دولة".
التسويق الإسرائيلي للدولة "اليهودية"
ومن فوق منبر الأمم المتحدة، وفي كلمة شارون أمام الجمعية العامة ، يوم 15 سبتمبر 2005، أخذ شارون يسوق دوليا لتلك الأفكار القائمة مركزيا على "يهودية" الدولة العبرية. في هذا الخطاب القصير تكررت عبارات (الشعب اليهودي، وأرض إسرائيل، وبلاد أرض إسرائيل، والدولة اليهودية) نحو 19 مرة.
استهل شارون خطابه بعبارة: "لقد جئت من أورشليم القدس عاصمة الشعب اليهودي من أكثر من 3000 سنة". ومن بين ما قاله: "إن ذاكرة الشعب اليهودي طويلة المدى هي التي وحدت الشتات طيلة آلاف السنين، وهم في طريقهم إلى الأرض الموعودة. أرض إسرائيل هي أغلى ما نملكه نحن اليهود، الأرض مشبعة بآثار التاريخ اليهودي، ودائما كان يهود يسكنون أرض إسرائيل ولم يتركوها، أرض إسرائيل هي الكتاب المقدس المفتوح أمام الجميع، شهادة الملكية والهوية والحق للشعب اليهودي. . . قلبها النابض أورشليم الموحدة مدينة الهيكل مركز حياة الشعب اليهودي على مر أجياله. أسمعكم الأقوال لأنها لب وعيي اليهودي، وإيماني بالحق الأبدي للشعب اليهودي على أرض إسرائيل لا يهزه شيء".
وفي تسويقه لصورة السلام المقبلة قال شارون: "أنا أحد من يؤمنون بإمكانية التوصل إلى تسوية مقبولة، وتعايش، وحسن الجوار بين اليهود والعرب. ولكن علي أن أؤكد على حقيقة واحدة، سوف لن يكون أي تنازل عن حق إسرائيل في العيش كدولة يهودية بأمن تام، تحميها حدود آمنة بلا تهديدات أو إرهاب".
وبالنسبة لمستقبل القدس، يقول: "أورشليم الموحدة، مدينة الهيكل المقدس على جبل موريا هي مركز حياة الشعب اليهودي، وهي العاصمة الموحدة لدولة إسرائيل إلى أبد الآبدين".
وحول انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ورؤيته للفلسطينيين ومستقبلهم، ذكر شارون أن "أرض إسرائيل هي أغلى ما نملكه نحن اليهود، وأي تنازل عن أي جزء من إرث أجدادنا عسير علينا، حق ملكية الشعب اليهودي على أرض إسرائيل لا يعني تجاهل حق الآخرين في الأرض، لأن الفلسطينيين سوف يكونون جيراننا إلى الأبد، ولا ننوي التحكم فيهم. من حقهم أن يعيشوا بحرية، وفي كيان قومي ذي سيادة في دولة خاصة بهم".
إن هذا الخطاب يعد التجسيد الحقيقي ليهودية إسرائيل المزعومة، بل إنه بمثابة تأكيد على الفكرة الصهيونية من جذورها وعلى عقلية الجيتو والفصل والانعزالية والعنصرية، ويمكن استنتاج بعض الخلاصات من هذا الخطاب فيما يلي:
1 الانسحاب الإسرائيلي من غزة هو انسحاب من جزء من أرض إسرائيل التاريخية، بل هو تخلٍ عن حق يملكه اليهود دون غيرهم.
2 الانسحاب هو من أجل الحفاظ على يهودية دولة إسرائيل بأمن تام دون تهديد أو إرهاب، وبالتالي فتوجيه ضربات للفلسطينيين "الإرهابيين" هو جزء من كينونة العنف الإسرائيلي وفق عقيدة أو هاجس الأمن المطلق، والجدار والاستيطان ومحاصرة غزة رغم الانسحاب منها وتضييق الخناق على فلسطيني الداخل هو إكمال أمني لإسرائيل.
3 إن إسرائيل مفتوحة لهجرة كل يهود العالم، إن أمكن، فهي وإن ضاقت حدودها، ستبقى أرض الميعاد.
4 إن أورشليم "الموحدة"، أي مجموع القدس الشرقية والغربية، هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وأي انسحاب من الضفة الغربية (يهودا والسامرة) سيكون تنازلا مؤلما عن جزء من أرض الميعاد، وبالتالي أسقط شارون من حساباته التاريخ الذي قرأه توراتيا وميثولوجيا وصهيونيا فقط، وألغى تلقائيا الهويات التاريخية والثقافية والدينية لأرض فلسطين، وفي مقدمتها القدس.
5 أشار شارون إلى حق الفلسطينيين في العيش في كيان قومي ذي سيادة في دولة خاصة بهم، لكنه ربط ذلك، بجوار ما سبق من أنها دولة دون سيادة، في وفاء الفلسطينيين بالتزاماتهم ووضع حد للإرهاب ولبنيته التحتية والقضاء على فوضى العصابات المسلحة والكف عن التحريض وعن تربية الأولاد على كراهية اليهود والعداء لإسرائيل، مشيرا إلى أهمية الجدار العازل لتحقيق أقصى درجات الأمن للإسرائيليين.
6 وفي مقابل خطوة الانسحاب من غزة من طرف واحد، كان وزير الخارجية حينذاك، سيلفان شالوم، يطالب العرب من على نفس المنبر بمزيد من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، معلنا عن انهيار الجدار الحديدي الذي فصل بين العرب والفلسطينيين وبين الدولة العبرية في الماضي، ومؤكدا على ضرورة الإعلان علانية عن هذه العلاقات.
والحاصل من ذلك أن قادة إسرائيل قد استغلوا الظروف الدولية والإقليمية بعد سبتمبر 2001 لإعادة إنتاج "الصهيونية"، والحديث عن مخاطر تحيق بمستقبل إسرائيل كدولة "يهودية"؛ إذ إنه بدون الصهيونية يكتنف مستقبل إسرائيل كدولة "يهودية"، وبدون وجود إسرائيل "يهودية" تندثر الصهيونية؛ فحينما قرر شارون فرض تسوية أحادية الجانب على الجانب الفلسطيني، عاد للصهيونية من أجل تبرير خطواته وتسويقها أمام العالم.
أولمرت. . على درب شارون
على درب شارون، سار إيهود أولمرت وريث شارون في حزب كاديما. يقول أولمرت في مؤتمر هرتزيليا السادس (يناير 2006)، إن "الخطوة الأكثر أهمية أمام إسرائيل هي رسم الحدود الدائمة لدولة إسرائيل من أجل ضمان الأغلبية اليهودية في الدولة". ويقتبس من جابوتنيسكي أهمية هذا الأمر ليؤكد على أن "اصطلاح دولة لليهود واضح، فهو يعني أغلبية يهودية، بذلك بدأت الصهيونية وفيه أساس وجودها وسوف تستمر على هذا الأساس إلى أن تحقق الهدف أو تندثر. . . ووجود أغلبية يهودية في دولة إسرائيل لا يتحقق مع استمرار السيطرة على السكان الفلسطينيين في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة. نحن نتمسك بإصرار بالحق التاريخي لشعب إسرائيل في أرض إسرائيل بكاملها، إن كل تلة في يهودا وكل شبر في السامرة جزء من وطننا التاريخي، فنحن لا ننسى ذلك للحظة واحدة. ومع ذلك فإن الاختيار بين الرغبة في تمكين كل يهودي من السكن في أي مكان وبقاء دولة إسرائيل كدولة يهودية يستوجب التنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل، وهذا ليس تنازلا عن الفكرة الصهيونية، وإنما التجسيد الجوهري لهدف الصهيونية المتمثل في ضمان وجود دولة يهودية وديمقراطية في أرض إسرائيل".
وأضاف أولمرت "لذلك حتى نضمن وجود الوطن القومي اليهودي، نحن لا نستطيع مواصلة السيطرة على المناطق التي تعيش فيها غالبية السكان الفلسطينيين، علينا أن نبلور في أقرب وقت ممكن خطا حدوديا واضحا يعكس الواقع الديموجرافي الذي نشأ على الأرض. . سوف تحتفظ إسرائيل بالمناطق الأمنية وبكتل الاستيطان اليهودية والأماكن التي لها أهمية قومية عليا للشعب اليهودي، وفي طليعتها القدس الموحدة، تحت سيادة إسرائيل. لا وجود لدولة يهودية دون أن تكون القدس العاصمة في قلبها".
وعلى أرض الواقع، وخلال الاستعداد لانعقاد مؤتمر أنابوليس للسلام (27 نوفمبر 2007)، تقدمت الحكومة الإسرائيلية برئاسة أولمرت بمجموعة من المطالب للسلطة الوطنية الفلسطينية، منها مطلب يحدث للمرة الأولى في تاريخ الصراع، وهو الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهودية" أو "دولة الشعب اليهودي"، وهو الأمر الذي رفضه الجانب الفلسطيني الذي أكد أن منظمة التحرير تبادلت الاعتراف مع إسرائيل سابقا، ومن ثم لا يوجد مبرر لإعادة الاعتراف من قبل الفلسطينيين بإسرائيل كدولة "يهودية".
وقد طرحت الحكومة الإسرائيلية هذا الأمر خلال مؤتمر أنابوليس، ليس كشرط للتفاوض ولا حتى كشرط للاتفاق، وإنما لابتزاز وانتزاع التنازلات من الفلسطينيين، حيث تم حذف الإشارة إلى قضايا الوضع النهائي (القدس والحدود واللاجئين)، مقابل حذف الإشارة إلى الدولة "اليهودية". علماً أن رئيسة طاقم التفاوض الإسرائيلي وزيرة الخارجية حينئذ، تسيبي ليفني، سبق لها أن عبرت عن اعتقادها بأن "يهودية" إسرائيل أمر يتكرس على أرض الواقع.
مسئول صفحة تحليلات وآراء
بشبكة إسلام أون لاين. نت.