د. حسن بن فهد الهويمل
سمع الناجون من تمرّد الحوثيين، والمكتوون بناره، والمقترفون لخطيئة التدبير والتدريب والتمويل، والمستفيدون من تمزق وحدة الأمة العربية، والمراقبون الذين لا يعنيهم من الأمر شيء
قبول الحوثيين بشروط الحكومة اليمنية.. وإنهاء التمرد المسلح وعودة الأمور إلى أوضاعها قبل الحرب، وذلك ما كان الناصحون لأمتهم يبغونه من قبل أن تقدر الدولة عليهم، وماذا لو كان الخيار للسلم، وأن الحوثيين فاؤوا إلى رشدهم قبل أن تزهق الأرواح من كل الأطراف وتهدم البيوت وتحرق الأرض ويشرد الأبرياء من ديارهم، أليس في ذلك خير لهم ولمن حولهم ولمن جاورهم؟!.
والحوثي وهو يعلن هزيمته بعدما دفعت كل الأطراف أثماناً باهظة: هل سيحاسب نفسه عما اقترفت بحق الوطن والأمة؟ وهل سيسائل من غرَّر به وأمدّه بالعتاد والعدة، ثم نكص على عقبيه في ساعة العسرة؟ وهل سيكون التسليم تسليم صدق وندم، أو هو تحرُّف وتربٌّص مثلما كان من قبل؟
لقد كان بالإمكان تفادي الحرب الضروس التي حصدت أرواح الشباب والكهول وخلفت الأيتام والأرامل والمشردين، وزرعت العداوات والأحقاد ونشرت الخوف والجوع وشغلت المقتدرين عما يجب عليهم من تنمية وإعمار وصناعة وزراعة وتعليم وترفيه. لقد أذل الحوثيون البلاد والعباد، وأضاعوا على أمتهم فرصاً ثمينة، ومكنوا لأعداء الأمة العربية من نفث أحقادهم وضغائنهم، وجروا على عشيرتهم الأقربين سُبَّة الدهر، وما حققوا من مغامراتهم الطائشة وغير المسؤولة إلا الويل والثبور، وما كان الحوثي في كل مغامراته إلا أجيراً لتنفيذ التدخلات المشبوهة واللعب الحاقدة، واللاعبون كالأوبئة لا يفتكون إلا بالأجسام القابلة لحمل (الفيروسات) الأجسام التي ليس لديها مناعة، واليمن بصراعه القبلي والطائفي والإقليمي مجال رحب لكل حاقد على الأمة العربية. وما كان اليمن الذي اختير ساحة لإيذاء نفسه وجيرانه بقادر على احتمال مثل هذه اللعب القذرة بهذا الحجم من التخطيط والتنفيذ، وما هو بحاجة إلى مزيد من المصائب والمشاكل، لقد كان منهكاً من قبل وأوضاعه الداخلية تنذر بالخطر، والراصد يدرك ذلك ويعرف أنه يمر بظروف عصيبة، وأنه غير قادر في ظل السلام والوئام على توفير أدنى حد من العيش الكريم لشعبه الذي أرهقته المزايدات الفارغة، ولولا الدعم غير المحدود من المملكة لما حقق هذا الحد الأدنى، وإقدام الحوثيين على التمرد المسلح في ظل الإمكانيات المتردية لا يمكن أن يكون خياراً ذاتياً ولا حلاً للخلاف القائم بين الدولة وسائر الأحزاب والطوائف، وأوضاعه المتردية أغرت اللاعبين لاتخاذه مسرحاً للتوغل والإيذاء؛ ذلك أن كافة الأطراف المتنازعة لا تقدر على اقتراف جرائم الحرب الأهلية بدون تدبير خارجي وتمويل سخي، والعملاء المرتزقون من يقبلون بالخيانة العظمى نظير جاه زائف أو ثمن زائل، وذلك ما تولَّى كبره الحوثيون في حروبهم المتعددة، لقد رضوا بأن يكونوا أداة لتنفيذ اللعب الإقليمية والدولية، ومنذ أن برزوا للقتال وخبراء الحروب يعرفون المصير المحتوم، ولاسيما أنهم وسعوا مداها وامتد أذاهم للمملكة، والمشرع الحكيم المدرك لطبائع البشر شرع الصلح بين الفرقاء وأمر بقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، وما ادخر قادر على إصلاح ذات البين ما يقدر عليه، ولكن اللاعب الممول لا يريد الصلح فكان خيار الحرب، وكانت الهزيمة للفئة الباغية وكان الاستسلام الذليل، وليست تلك الحرب المدمرة هي الأولى بحيث يقال: إنها غلطة ولن تعود، إنها الحرب السادسة، وكل واحدة منها باءت بالفشل بعدما خلفت الويلات لشعب منهك بأوضاعه، وسيظل الحوثيون عبوة ناسفة وملفا ساخناً تحركه الأصابع الآثمة متى وجدت نفسها في ضائقة سياسية، ومتى أرادت أن تساوم على مطامع إقليمية. والحوثيون الذين لطخوا أيديهم بدماء الأبرياء قاتلوا بسلاح مهرب وليس مصنعاً محلياً ولا مستورداً وبأموال خارجية، فما كان بمقدورهم أن ينفقوا على ست حروب من عند أنفسهم، وتمردوا بإرادة خارجية تريد إضعاف الأمة العربية وجعل بأسها بينها شديد لتحقق الغلبة والهيمنة وفرض السيادة والتدخل في شؤون الدول العربية وتولي شأنها في المحافل الدولية. وعلى الأمة العربية أمام هذه التحديات والتدخلات السافرة أن تدرك المقاصد والغايات قبل نفاذها وتحقيق المراد منها، وكيف لا تعي المراد منها وبها، وما يحاك لها، وهي قد بلغت الدرك الأسفل من الهوان والمأساوية، إن عليها أن تعيد النظر في مجمل السياسات الإقليمية والعالمية، وأن تتدارك الأمر قبل فواته فما عادت الأوضاع تحتمل مزيداً من الترديات، وما دام في الأمر متسع فإن فوات الفرص مؤذن بمزيد من الضياع، والسعيد السعيد من يضرب صفحاً عن الماضي ويبسط يده للوفاق.
والشعوب العربية، على الرغم مما هي فيه من ضعف وما ينتابها من تدخلات سافرة، بإمكانها حل مشاكلها المفتعلة والفعلية ما لم تقترف حرباً أهلية أو حدودية، فإذا قامت الحرب فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون، ففي أجواء الحرب ينسل الأعداء المتربصون من جحورهم يؤزون ويحرضون ويمدون المحاربين بالغي، وفي أجوائها ينشط تجار السلاح وتتحرك النعرات الطائفية والقبلية والإقليمية ويختل الأمن ويشيع الفساد ويستشري الفقر والمرض وتتعطل المشاريع، وتفقد الدولة سيطرتها وتخضع لشروط الداعم والممول، وما الشواهد الحية عنا ببعيدة؛ فهذه الصومال والسودان، وتلك من قبل ومن بعد العراق وأفغانستان، إنها آيات ونُذُر لمن أراد أن يذكّر أو أراد إنقاذ نفسه وأهله من موت محقق.
إن على الأمة العربية أن تعي الدرس العصيب، وأن تجنب نفسها ويلات الحروب بفتح أبواب الحوار وحسن الجوار؛ فالشعوب العربية ملّت المغامرات وضاقت ذرعاً بالأوضاع المتردية، وسئمت الوعود الزائفة، وواجب كل دولة أن ترتد إلى الداخل لتعيد الثقة ببناء الوطن وصناعة المواطن، فما عاد في الأمر متسع للتسويف أو المماطلة.
الجزيرة السعودية