ياسر باعامر
مع دخول العام الجديد 2010، تكون الحرب الإريترية - الإثيوبية، قد بلغت عامها الثاني عشر، وهي سنوات كانت كفيلة بأن تغير إفرازاتها ملامح القرن الإفريقي ككل، خصوصا مع المتغيرات الدولية والإقليمية، ولعبة التوازنات في المنطقة. ففي السودان احتمال أن ينفصل الجنوب ويؤسس دولة، هو احتمال قائم، وقد ترجح كفته في أية لحظة. ودارفور هي الأخرى تقف على وضع ميداني وإنساني مضطرب، لم تستطع أن تحل مشاكله اتفاقية سلام هشة. وفي الصومال، دولة "فاشلة"، واحتلال، وفرقاء إسلاميون لا يجمعهم إلا الدم. أما إثيوبيا فغدت مرتعا لعشرات الحركات المسلحة، ابتداء من "أوغادين" وانتهاء ب"الأرومو". إريتريا بدورها، تحوي شعبا بكامله في مواطن اللجوء. ومتمردون في جيبوتي يتربصون بالحدود. حتى اليمن "السعيد"، فقد سعادته، ولم يسلم من الإفرازات القادمة من وراء البحار، فهناك تحذير جدي من "الصوملة"، و"العرقنة". وحدها الحرب الإريترية - الإثيوبية، هي "القاسم المشترك" في كل هذه التحولات، ورأس حربة هذا "القرن الإفريقي" المنكسر. فمنذ اندلاعها عام 1998، وعِقدُ أمن "القرن الإفريقي"، ينفرط تدريجيا، ويجر معه الويلات لشعوب تلك المنطقة.
دهاليز الحرب الإثيوبية الإريترية
كان اندلاع المعارك بين الجيشين الإثيوبي والاريتري، بمثابة الصدمة لشعبي البلدين، ولاسيما أن غالبيتهم لم يكونوا يعلمون ما يجري في دهاليز العلاقة بين دولتيهما، والقلة ممن كانت تعلم تنازعتها مشاعر متباينة، ولهذا فجميعهم اعتبروا الأزمة بمثابة سحابة صيف عابره، ولم يظن أحد أنها ستتلبد وتمطر دموعا ورصاصا ودماء، بين من رحل مبكرا، ومن كان يقف خلف الأبواب متأهبا.
هذه الحرب أكدت للمراقبين أن إريتريا تعجلت في فرض نفسها على جارتها العملاقة إثيوبيا، حيث لم يمض زمن طويل من استقلالها حتى ساءت علاقاتها مع الدول التي دعمتها، وفي مقدمتها السودان واليمن، وأصبحت الدولة الوليدة في منطقة القرن الإفريقي والتي تأسست علاقتها مع ميراث الجبهة الشعبية لتحرير تجراي (الحزب الحاكم في إثيوبيا)، حتى تسنى لها الوقوف على أبواب العاصمة أسمرا في الرابع والعشرين من مايو، عام 1991، وأصبحت بعد عامين انتقاليين العضو رقم (153) في هيئة الأمم المتحدة، إلا أن "أديس أبابا" لم تسلم من الدولة الوليدة، وانضمت إلى قائمة الأعداء بعد سنوات من حرب صامتة، لم يجرؤ أي من الطرفين على الإعلان عنها، حيث كانت إثيوبيا تقف على رمال متحركة سياسيا وإثنيا، لا تسمح لها بالدخول في مواجهات حادة، بينما كانت إريتريا تنتظر تسوية قضايا الدولة الوليدة، مما حتم عليها النظر لملف العلاقة بعين مفتوحة.
إعلان الحرب وانتهاء شهر العسل
الهدوء المؤقت بين الدولتين انتهى، وسقطت آخر جدرانه، وخرج بيان البرلمان الإثيوبي بإعلان الحرب على إريتريا في مايو 1998 كالصاعقة على أسمرا، ورغم أن إثيوبيا أزمعت في بيانها على أخذ ثأرها بيدها لا بيد عمرو، إن لم تخرج القوات الإريترية من منطقة "بادمي" - منطقة النزاع - إلا أن رد الفعل الإريتري الوحيد جاء هازئا في اليوم التالي على لسان الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، عندما قال: "خروجنا من بادمي يعني أن الشمس سوف لن تشرق من جديد". وفي بلد وليد فرضت عليه تقاطعات الجغرافيا والتاريخ حمل السلاح لثلاثة عقود زمنية، كان حتما أن تترجم تلك الأقوال إلى أفعال، ولا سميا أنها صدرت عن رئيس يتمتع حتى ذلك الوقت بزخم شعبي، وكاريزما قيادية مكنته من السيطرة على مقاليد الدولة، لا يزعجه البتة تفسيرات البعض لها بالديكتاتورية! إلا أن دخول كل من إريتريا وإثيوبيا في تلك الحرب كلفهما وكلف المنطقة الكثير، حيث تحولت دول القرن الإفريقي إلى دول استقطاب بين معسكرين، ومارست حكومة أسمرا سياسة قاسية جدا على جيرانها، على غرار مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق دبليو جورج بوش "من ليس معنا فهو ضدنا"، وتجرعت كل من السودان والصومال وجيبوتي واليمن، مرارة هذا الاستقطاب الحاد.
أسمرا واللعب على أوتار المعارضة
مثلت الحرب انعطافة كبيرة في مسيرة أسمرا، التي تحولت أراضيها إلى مقرات وقواعد لكل راغب في عمل معارض، ابتداء بالحركات المتمردة في السودان، مرورا بحركات إثيوبيا المناوئة لحكومتها، كحركة "تجراي" و"أمحرا" و"أوغادين"، مرورا بتنظيمات الصومال وجيبوتي، تاليا جماعة "الحوثيين" وفقا لتصريحات المعارضة الإريترية. وخلال تلك المدة أجادت حكومة أسمرا فن النكاية بالآخرين، فدعمت المعارضة السودانية، لأن الخرطوم وقفت في معسكر إثيوبيا، مما أجبر الخرطوم على الوقوف على الحياد، درءا لشرور أسمرا. ثم دعمت "المجاهدين" الصوماليين - وهي عدوة المجاهدين الإريتريين- نكاية بإثيوبيا، في مشهد أعاد فيه التاريخ نفسه، حيث سبق أن بالغت أسمرا في تمتين علاقتها بتل أبيب، نكاية بالعرب لوقوفهم مع اليمن في الصراع مع "حنيش".
نكاية بالحليف واشنطن
التوترات التي نشأت بين الولايات المتحدة وإريتريا، دفع بالأخيرة إلى البحث عن دولة تكون تماسا سلبيا مع واشنطن، فكانت إيران هي الضالة المنشودة، حيث توثقت العلاقات بين طهران وأسمرا، مما أدى إلى تحولات في مواقف إريتريا تجاه العديد من القضايا، إذ ظهرت النبرة الانتقادية لإسرائيل، وبدأ الوقوف مع الشعب الفلسطيني، وبالخصوص حركة "حماس" واضحا، وبات التلفزيون الرسمي على إثره يعرض بشكل دوري مشاهد من المجازر الإسرائيلية، والتي كان محرما عرضها سابقا، كما أن الحديث عن التنظيمات الأصولية بدأ يتغير، فصار أسياس أفورقي الرجل "التقدمي"، نصيرا للمسلمين والمجاهدين في مقديشو!.
الحضن الإيراني الدافئ
علاقة إريتريا بإيران تعتبره إيران مكسبا، يضاف إلى ما تمتلكه أسمرا من إمكانات، من خلال وضعها الجغرافي المميز في ميناء "عصب"، والذي تستطيع من خلاله لعب دور سياسي أكبر، عبر التسهيلات التي ستحصل عليها من إيران، بموجب التعاون بينهما، والمتمثل في تطوير مصفاة تكرير البترول في ميناء "عصب"، وإنشاء مستودعات وقود إيرانية بهدف تصديرها، أما طهران فتتمثل استفادتها في تهديد المصالح الأمريكية والغربية، عبر تعزيز حضورها في باب المندب وحوض البحر الأحمر. فواشنطن ترى في علاقة أسمرا بطهران حالة إخفاق للنجاحات التي حققتها في منطقة القرن الإفريقي، وحدا من النفوذ الأمريكي نحو منطقة وسط إفريقيا.
موقع "عواتي" الإريتري المعارض، ذكر في معلومات نشرها، أن وزير الدفاع الإريتري الجنرال سبحات إفريم، غادر إريتريا في 12 نوفمبر 2009 برفقة فريق من العسكريين، دون إعلان رسمي عن وجهة مغادرته. ويشير الموقع اعتمادا على مصادره الخاصة، إلى أن الوزير كان على السواحل اليمنية، مما دفع ببعض المحللين إلى الربط بين الزيارة وبين اندلاع المعارك بين الحوثيين والجيش السعودي في 19 نوفمبر، مؤكدين أن أمن البحر الأحمر، واستقرار الصومال، وإنهاء القرصنة البحرية، والتمرد الحوثي في اليمن، كلها حلقات مرتبطة ببعضها البعض، وتمثل أبرز إفرازات "الحرب الإريترية، الإثيوبية".
وكشف مدير مركز الخليج لأبحاث وإعلام القرن الإفريقي د. محمد طه توكل، عن منحة مالية قدمتها طهران لأسمرا تقدر ب35 مليون يورو، 20 مليونا منها لاستثمارات إيرانية في صيد الأسماك، و15 مليونا كمساهمة من الحكومة الإيرانية نظير العلاقات المتميزة مع إريتريا. توكل وفي حديث مع "الوطن"، رأى أن "طهران شغلت العرب بالأحداث الجارية في أفغانستان والعراق، وتفرغت لبناء علاقات قوية مع دول القرن الإفريقي وشرق إفريقيا (كينيا -تنزانيا - إثيوبيا - السودان)، ونافست بقوة الصين على أنها عضو مراقب فاعل في الاتحاد الإفريقي". مضيفا "هذا النفوذ الإيراني في القرن الإفريقي، جاء بعد غياب عربي استمر لعشرين عاماً، من عدم الاهتمام وتفعيل العلاقات مع دول القرن الإفريقي، رغم التنافس الدولي والإقليمي عليها، إلا أن الإيرانيين فهموا ذلك جيداً، ودخلوا من باب الاستثمارات الاقتصادية".
كلام د. محمد توكل، يتقاطع مع معلومات نشرها الصحفي "أوليفييه روجيز"، من راديو "فرانس إنترناشيونال"، زعم فيها وصول وحدات من الحرس الثوري الإيراني إلى إريتريا، في ديسمبر 2008م. وتقول مصادر غربية إن سفنا حربية وغواصة رست في ميناء "عصب" الإريتري، ذي الموقع الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، وعلى بعد كيلومترات قليلة من باب المندب ومدخل خليج عدن، وينقل عبره ربع نفط العالم، و10% من التجارة البحرية العالمية، وعلى هذا "لم يختر الإيرانيون ميناء عصب عبثاً". ويضيف روجيز "إذا انفجر الخلاف مع الغرب على المسألة النووية في وسع طهران شن جهاد بحري، كما أن السيطرة على الممرات البحرية، تتصدر أولويات النظام الإيراني"، ويضيف: "الإيرانيون من ناحيتهم يريدون توسيع سياسة ردعهم الشامل".
مسؤول العلاقات الخارجية بالتحالف الإريتري المعارض، بشير إسحاق، تحدث عن "وجود معسكر تدريب لعناصر من أنصار الحوثي بدعم وإشراف إيراني، في منطقة "دنقللو" شرق مدينة "قندع" وسط إريتريا"، وهي المعلومات التي لم يتسنَ ل"الوطن" التحقق من صحتها من مصدر محايد.
هذه التحركات الإيرانية، رصدتها أيضا ندوة عقدت بمقر "المركز الدولي للدراسات السياسية والمستقبلية" بالعاصمة المصرية القاهرة في 21 أكتوبر 2009، حملت عنوان "التحركات الإيرانية في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي"، رأت أن توسع مناطق نفوذ إيران في البحر الأحمر، سيؤثر على مصر، والسعودية، واليمن، ودول الخليج. وأن ذلك من شأنه أن يفرض تحديات على مصر وعلى دول المنطقة.
الوطن السعودية