كتاب
ثيوقراطية فليس في الإسلام كهنوت يملك أن يحلل أو يحرم وإنما الذي يحلل أو يحرم هو
الخالق الذي لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، مما يعطي الحقوق صفة العدل المطلق ويجند
كل مؤمن للدفاع عنها كلما انتهكت سواء كان العدوان موجهاً إليه شخصياً أو إلى غيره
فالظلم واجب رفعه والعدل واجب تحقيقه. .
إن بلورة ثقافة إسلامية معاصرة مرتبطة بهموم الجماهير مسلحة بإبداعات العصر،
تضفي على الأرض صبغة السماء وتكتشف فيها الأمة ذاتها وترى خلالها حلول مشاكلها
وآمالها. .
ذلك هو التحدي المطلوب من جيلنا مواجهته من أجل القضاء على أثار
الحملة الصليبية الجديدة التي كان نصيب مغربنا منها فادحاً. .
إنه التحدي الكبير
الذي ما ينبغي أن ننشغل عنه بغيره، فلنجعل الأولوية في عملنا مهمة المثقف والعالم
والمربي لا للقاضي أو السياسي. .
* الحرية وجهاً آخر للتوحيد إن قضية الحرية
السياسية والفكرية أولوية من الأولويات ومنها ينطلق البناء الجديد.
ويسترسل هذا
الكتاب بالقول أن النصر في المعركة الثقافية هو النصر الحقيقي، ولقد تمكنت الحركة
الإسلامية من تهميش المشروع العلماني رغم امتلاكه أجهزة الدولة العملاقة وأنه إذا
كان علينا أن نقيم المشروع الإسلامي المنشود على مراحل فليكن دخولنا على المرحلة
الأولى من باب الحرية والديمقراطية الذي زعم المؤلف أن اجتيازه بنجاح هو المعيار
الحقيقي لاختبار مصداقية أية نظام سياسي يعلن انتماءه للإسلام، وأن من شأن ذلك أن
يبدد المخاوف ممن يعتبرون الحرية وجهاً آخر للتوحيد.
ولقد ظل الإسلام يرفع لواء
التحدي في وجه الأفكار المضادة له داعياً إياها إلى الحوار الجاد واثقاً من قوة
منطقة من جهة ومن توافق الفطرة البشرية مع ذلك النطق حتى أنه لو خلى بينها وبينه في
جو من الحرية والنزاهة لما وجدت سبيلاً لغير اعتناقه، إن التحدي الإسلامي في الدعوة
إلى المناظرة ظلت تحمله آيةٌ صريحة في الكتاب لها وقع كبير في نفوس المؤمنين "قل
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" فقام في كل جيل ومع تجدد كل ابتلاء على المسلمين
رجال أفذاذ يواجهون بالكتاب التحديات المتجددة يؤدون للحق الشهادة وعلى كثرة
المناظرات بين علماء الإسلام ورموز المذاهب المضادة لم يسجل التاريخ أن مسلماً هزم
في مناظرة حرة وكان المطلب العزيز لصاحب الدعوة "ص" في مواجهة معانديه: "خلوا بيني
وبين الناس" ولا يزال مطلب خلفائه الدعاة نفسه في كل مكان وأن يظفروا به
غالباً.
الحرية لا تبلى ولذلك لم يكن عجباً أن وجدت في ظل هذه الحياة الفكرية
الحرة التي أوجدتها مثالية الإسلام كل الأفكار والنحل سبيلها للتحاور والنضج والنمو
وكان طلب العلم في هذه البيئة فريضة حق وكان للبحث العلمي شأن عظيم لا قيد عليه
:"قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" إن الإسلام لم يفرض على حرية الفكر قيوداً من
خارجها المهم أن لا تنقص الحرية نفسها فتغدو سبيلاً إلى مصادرة حرية الغير أو
الاعتداء عليه والنيل منه أو سبيلاً لإثارة النعرات العصبية والعرقية أو مدخلاً
للإثارات الغريزية ذلك أن الحيرة قيمة إنسانية عليا وهي تفقد معناها إذا انفصلت عن
قيم الحق والخير والجمال والعدالة إذ لا حرية لظالم ولا لمجنون "فلا ضرر ولا ضرار"
و"فلا عدوان إلا على الظالمين". . ذلك أن قيمة الحرية تتجدد بمقدار ما تمنح الحياة من
قوة وطمأنينة واستقرار وإيمان وعدل ورقي. .
كما جعل له في إقامة أسرة واختياره
شريك حياته بل قد يصل الأمر إلى الوجوب مع خشية الفتنة "من استطاع منكم الباءة
فليتزوج".
وإذا كان الزواج للفرد حقاً فعلى المجتمع واجب السعي لتيسيره للرجال
والنساء "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم
الله من فضله"، ولم يفرض من القيود على الزواج بين مختلف فئات المجتمع وأجناس البشر
غير ما يتعلق بالمعتقد حرصاً على الانسجام ودوام العشرة من جهة وعلى صيانة الأمن
العام والنظام العام للمجتمع من جهة أخرى على اعتبار أن المعتقد الإسلامي هو
الركيزة العظمى للمجتمع الإسلامي فكل علاقة في المجتمع من شأنها أن تنال من ذلك
الأساس أو تهدده كان منعها أمراً محتوماً ومن ذلك منع الزواج بالفسقه والملحدين
وأعداء الإسلام عامة والرخصة للرجال في الزواج من العفيفات. .
المحصنات من أهل
الديانات الأخرى إذا غلب الظن أن ذلك سبيلاً إلى انتشار الدعوة في صفوفهم ولا يكون
ذلك عادة إلا في حال قوة المسلمين السياسية والحضارية غير أنه لا مجال في هذه
الرخصة للمسلمات على اعتبار ما جبلت عليه المرأة من حبها لزوجها وطاعتها له بحكم ما
جرت به العادة من انتقال المرأة إلى بيئة زوجها ونشأة الأبناء بحسب الدين السائد في
تلك البيئة الأمر الذي يجعل من اقتران هذه المسلمة بكافر خطراً على دينها وعلى
أبنائها وقد يمثل خطراً على نظام المجتمع برمته.
حين يغشى غبار الحضارات نور
العدالة وإذا كان غبار التاريخ المتطاير من حماة الحضارات الفارسية والرومانية
القائمة على الإقطاع والاستغلال قد غشى إلى حد ما أنوار العدالة والإنسانية التي
أشعت بها نصوص الكتاب والسنة وتجربة التطبيق النموذجي في الصدد الأول للإسلام
فخالطت تلك الأنوار الساطعة ظلمات الجاهلية وتأشير التنظير الفقهي بذلك قليلاً أو
كثيراً فالتاريخ الإسلامي لم يخل من المجددين الثائرين الذين كسروا أطواق التاريخ
ونفضوا غبار المتراكم فاتصلوا بالنبع الصافي وأطلقوا أنواره مجدداً وكان أشهر أولئك
علامتنا المغربي الثائر الفقيه السلفي ابن حزم الذي لا يشك أحد في تمسكه الحرفي
المتشدد بظواهر النصوص. .
كان ذلك كافياً لو صح تحليل خصوم السلفية ليجعل من ابن
حزم أكثر فقهاء الإسلام رجعية وجموداً وخصومة لحقوق المستضعفين من الرجال والنساء
ولكن الواقع يشهد بعكس ذلك تماماً لدرجة أن رافعي لواء التحرر من سلطات النصوص
لحساب العقل وذلك شرط التحرر والتقدمية عندهم إذ أن التقدم بزعمهم والمنهج
النصي أو "السلفي" نقيضان لا يجتمعان ولا يكادون يعثرون خلال تنقيبهم في التراث على
مواقف تحررية في مجال الاقتصاد أو المرأة والفن وغيرها أعمق وأجلى وأغزر من مواقف
الموغلين في السلفية أمثال أبن تيمية وابن القيم وابن حزم وهو زعيم المنهج السلفي
بلا منازع. .
وكان على هؤلاء أن يذعنوا للحقيقة التي كشف عنها تاريخ الحضارة
الإسلامية تلك التي أعلن عنها الفكر الإسلامي المعاصر ألا وهي أن لا تجديد إلا في
إطار السلفية المقصود أنه لا تجديد إلا انطلق تاريخنا من النص المقدس فلا تجديد
حقيقياً إلا في إطاره وإنطلاقاً منه بل أنه التجديد في كل حضارة كان بهذا المعنى
سلفياً أي عودة إلى الجذور إنطلاقاً منها من أجل تخطي الحاضر الهابط نحو مستقبل
أفضل مع ملاحظة أن السلفية هنا تعنى التمسك بنصوص الإسلام ومقاصده في مواجهة
محاولات العبث العلماني وليست بحال رفض التجديد ورفض مقاصد الشريعة مع التنبيه
أيضاً أن مصطلح السلفية لا يحمل دلالة إلزامية بل الاستغناء عنه والاستعاضة عنه
بغيره لأن السلفية ليست مفهوماً واحداً.