بقلم: د.
محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري
الحق أنه إذا
كان هناك نص ما خالد، يقرأ في الناس، من مختلف العصور والأجيال، صورة الحاكم
المستبد في زمانهم ومكانهم، فهو ما ورد في الكتاب التاسع من جمهورية
أفلاطون.
ومع أن مهمة ابن رشد هنا هي"الاختصار" فإنه أرخى العنان لقلمه ليطنب في
نقل جميع ما خطه قلم أفلاطون في هذا الموضوع الذي تكلم فيه عن تجربة ومعاناة، إذ
كان قد خبر بنفسه الاستبداد عن قرب.
ينقل ابن
رشد ما كتبه أفلاطون في صيغة حوار نقلا مستفيضا بخطاب تحليلي
يشعر القارئ معه أن الكاتب لا ينقل وإنما يتكلم من عنده، بعقله ووجدانه، ولا يستطيع
القارئ المتفحص للطريقة التي نقل بها ابن رشد كامل مضمون الكتاب التاسع من
"الجمهورية" إلا أن يجزم بأن فيلسوف قرطبة كان يخاطب أهل زمانه ومكانه متجاوزاً
طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة" إلى الخطاب المباشر والصريح، مستعملا مصطلحاً
أصيلا هو "وحدانية التسلط".
يقول عن "الطاغية" بالاصطلاح اليوناني و"وحداني
التسلط" باصطلاحه هو:"ولهذا يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس
ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار
و(يقربهم من) ذوي الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة - لما كان هو من أصحاب
الحكم والسلطان - ليستتب (أمرهم) بسياسته وسياسة خدامه.
ولذلك تسعى الجماعة
الغاضبة عندها إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم والاستيلاء على
عتادهم وآلة أسلحتهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل: كالمستجير من الرمضاء
بالنار.
وذلك أن الجماعة إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي
تقع في استعباد أكثرة قسوة.
وهذه الأعمال هي جميعاً من أعمال رئاسة وحدانية
التسلط، وهي شيء بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضاً بالحس
والمشاهدة".
(فقرة: 337).
وأيضاً: "ولمكان هذا (= سبب هذا) فوحداني التسلط
أشد الناس عبودية وليس له حيلة في إشباع شهواته، بل هو أبداً في حزن وأسى
دائمين.
ومن هذه صفته فهو ضعيف النفس، وهو حسود وظالم لا يحب أحدا من
الناس.
وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به
بعدها.
وبالضرورة لا ريب ان يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوماً
عسيراً، لأن من يركب البخت والاتفاق (والمصادفة)، كثيراً ما يستخف به.
وهكذا كله
بيّن وجلي من هؤلاء، كما قلنا مرارا، لا بالقول (وحسب) ولكن بالمشاهدة (أيضاً)"
(ف:354*.
مشاهدة من؟ هل يتعلق الأمر بالمنصور الموحدي عند جنوحه إلى الاستبداد،
وهو الذي انتزع الخلافة عند استشهاد أبيه في إحدى المعارك لتحرير مدينة شنترين من
يد ملك قشتالة؟ لقد كان معه في المعركة، وعندما استشهد أبوه أخفى خبر وفاته حتى فرض
نفسه كأمر واقع، و"كان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلاً للإمارة لما
كانوا يعرفون من سوء صباه".
وإذن فالإشارة بقوله: "وذلك أن هذه الصفات لما كانت
موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها"، قابلة للتأويل: قابلة لتفسر على أنها
إشارة مباشرة إلى يعقوب المنصور! فهل نحتاج إلى البحث عن سر سبب لنكبة ابن رشد خارج
هذا الكتاب؟ صار الأمر في الدولة إلى الدنيويات، فالإصلاح ضروري ويواصل ابن رشد
توجيه الخطاب المباشر إلى أهل زمانه، وبالدرجة الأولى إلى الشخصية التي طلبت منه
"الضروري في السياسة"، فينفصل عن يأس أفلاطون من إقامة المدينة الفاضلة على أرض
الواقع ليعلن إمكانية ذلك، ليس استنادا إلى مجرد الرغبة والتخمين بل اعتمادا على ما
يعطيه "العلم" كان أفلاطون قد حلل الكيفية التي تتحول بها المدن الخمس (مدينة
الملكية الدستورية، مدينة الكرامة، مدينة الأقلية من الأغنياء، المدينة الجماعية
المدينة وحدانية التسلط)، ذاهبا إلى أن هذا التحول وعلى هذا الترتيب يتم حتماً
وبشكل دوري، فلا مناص منه.
ولا شك أن ابن رشد الذي كان يفكر في الإصلاح السياسي
قد صدمه هذا الذي ذهب إليه أفلاطون، فأورد اعتراضا علمياً مفاده ان التحول من حالة
إلى أخرى تحولا ضروريا إنما يكون في الظواهر الطبيعية حيث السيادة للسببية
والحتمية.
أما في ميدان الظواهر الإنسانية "وهي إرادية كلياً"، فالأمر يختلف
ولذلك ف"الذي قاله أفلاطون لا شك أنه ليس ضرورياً، إنما هو الأكثر.
وسبب هذا هو
أن السياسة القائمة لها أثر في إكساب الناشئ عليها خلقاً ما، وإن كان منافياً لما
طبع عليه من التهيؤ للأخلاق، ولذلك صار ممكنا أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل
الإنسانية، ونادرا ما يمتنع ذلك.
وقد تبين هذا في الجزء الأول من هذا العلم، إذ
قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هو التعود، كما أن طريق بلوغ العلوم النظرية
هو التعليم.
ولما كان ذلك، فإن تحول الإنسان من خلق إلى خلق إنما يكون تابعاً
لتحول السنن ومرتباً على ترتيبها.
ولما كانت النواميس، وخاصة في المدينة
الفاضلة، لا تتحول من حال إلى حال فجأة، وهذا أيضاً من قبل الملكات والأخلاق
الفاضلة التي صار على نهجها أصحابها وربوا عليها، وإنما تتحول شيئاً فشيئاً، وإلى
الأقرب فالأقرب، كان تحول الملكات والهيئات بالضرورة على ذلك الترتيب، حتى إذا فسدت
النواميس غاية الفساد، برزت هناك الأخلاق القبيحة غاية القبح".
ويضيف فيلسوف
قرطبة قائلاً :"ويتبين لك ذلك مما عندنا من الملكات والأخلاق الطارئة بعد العام
الأربعين (540 ه: تاريخ استيلاء، الموحدين على قرطبة) لدى أصحاب السيادة
والمراتب.
وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة الكرامية التي نشأوا عليها، صار
أمرهم إلى الدنيويات التي هم عليها الآن، وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت
به فضيلة الشريعة القرآنية، وهم فيهم قلة" (ف: 358)! وهذه القلة هي التي يقع على
عاتقها التغيير والإصلاح.
* عن كتاب ابن رشد سيرة وفكر. .
كان هناك نص ما خالد، يقرأ في الناس، من مختلف العصور والأجيال، صورة الحاكم
المستبد في زمانهم ومكانهم، فهو ما ورد في الكتاب التاسع من جمهورية
أفلاطون.
ومع أن مهمة ابن رشد هنا هي"الاختصار" فإنه أرخى العنان لقلمه ليطنب في
نقل جميع ما خطه قلم أفلاطون في هذا الموضوع الذي تكلم فيه عن تجربة ومعاناة، إذ
كان قد خبر بنفسه الاستبداد عن قرب.
ينقل ابن
رشد ما كتبه أفلاطون في صيغة حوار نقلا مستفيضا بخطاب تحليلي
يشعر القارئ معه أن الكاتب لا ينقل وإنما يتكلم من عنده، بعقله ووجدانه، ولا يستطيع
القارئ المتفحص للطريقة التي نقل بها ابن رشد كامل مضمون الكتاب التاسع من
"الجمهورية" إلا أن يجزم بأن فيلسوف قرطبة كان يخاطب أهل زمانه ومكانه متجاوزاً
طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة" إلى الخطاب المباشر والصريح، مستعملا مصطلحاً
أصيلا هو "وحدانية التسلط".
يقول عن "الطاغية" بالاصطلاح اليوناني و"وحداني
التسلط" باصطلاحه هو:"ولهذا يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس
ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار
و(يقربهم من) ذوي الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة - لما كان هو من أصحاب
الحكم والسلطان - ليستتب (أمرهم) بسياسته وسياسة خدامه.
ولذلك تسعى الجماعة
الغاضبة عندها إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم والاستيلاء على
عتادهم وآلة أسلحتهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل: كالمستجير من الرمضاء
بالنار.
وذلك أن الجماعة إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي
تقع في استعباد أكثرة قسوة.
وهذه الأعمال هي جميعاً من أعمال رئاسة وحدانية
التسلط، وهي شيء بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضاً بالحس
والمشاهدة".
(فقرة: 337).
وأيضاً: "ولمكان هذا (= سبب هذا) فوحداني التسلط
أشد الناس عبودية وليس له حيلة في إشباع شهواته، بل هو أبداً في حزن وأسى
دائمين.
ومن هذه صفته فهو ضعيف النفس، وهو حسود وظالم لا يحب أحدا من
الناس.
وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به
بعدها.
وبالضرورة لا ريب ان يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوماً
عسيراً، لأن من يركب البخت والاتفاق (والمصادفة)، كثيراً ما يستخف به.
وهكذا كله
بيّن وجلي من هؤلاء، كما قلنا مرارا، لا بالقول (وحسب) ولكن بالمشاهدة (أيضاً)"
(ف:354*.
مشاهدة من؟ هل يتعلق الأمر بالمنصور الموحدي عند جنوحه إلى الاستبداد،
وهو الذي انتزع الخلافة عند استشهاد أبيه في إحدى المعارك لتحرير مدينة شنترين من
يد ملك قشتالة؟ لقد كان معه في المعركة، وعندما استشهد أبوه أخفى خبر وفاته حتى فرض
نفسه كأمر واقع، و"كان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلاً للإمارة لما
كانوا يعرفون من سوء صباه".
وإذن فالإشارة بقوله: "وذلك أن هذه الصفات لما كانت
موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها"، قابلة للتأويل: قابلة لتفسر على أنها
إشارة مباشرة إلى يعقوب المنصور! فهل نحتاج إلى البحث عن سر سبب لنكبة ابن رشد خارج
هذا الكتاب؟ صار الأمر في الدولة إلى الدنيويات، فالإصلاح ضروري ويواصل ابن رشد
توجيه الخطاب المباشر إلى أهل زمانه، وبالدرجة الأولى إلى الشخصية التي طلبت منه
"الضروري في السياسة"، فينفصل عن يأس أفلاطون من إقامة المدينة الفاضلة على أرض
الواقع ليعلن إمكانية ذلك، ليس استنادا إلى مجرد الرغبة والتخمين بل اعتمادا على ما
يعطيه "العلم" كان أفلاطون قد حلل الكيفية التي تتحول بها المدن الخمس (مدينة
الملكية الدستورية، مدينة الكرامة، مدينة الأقلية من الأغنياء، المدينة الجماعية
المدينة وحدانية التسلط)، ذاهبا إلى أن هذا التحول وعلى هذا الترتيب يتم حتماً
وبشكل دوري، فلا مناص منه.
ولا شك أن ابن رشد الذي كان يفكر في الإصلاح السياسي
قد صدمه هذا الذي ذهب إليه أفلاطون، فأورد اعتراضا علمياً مفاده ان التحول من حالة
إلى أخرى تحولا ضروريا إنما يكون في الظواهر الطبيعية حيث السيادة للسببية
والحتمية.
أما في ميدان الظواهر الإنسانية "وهي إرادية كلياً"، فالأمر يختلف
ولذلك ف"الذي قاله أفلاطون لا شك أنه ليس ضرورياً، إنما هو الأكثر.
وسبب هذا هو
أن السياسة القائمة لها أثر في إكساب الناشئ عليها خلقاً ما، وإن كان منافياً لما
طبع عليه من التهيؤ للأخلاق، ولذلك صار ممكنا أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل
الإنسانية، ونادرا ما يمتنع ذلك.
وقد تبين هذا في الجزء الأول من هذا العلم، إذ
قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هو التعود، كما أن طريق بلوغ العلوم النظرية
هو التعليم.
ولما كان ذلك، فإن تحول الإنسان من خلق إلى خلق إنما يكون تابعاً
لتحول السنن ومرتباً على ترتيبها.
ولما كانت النواميس، وخاصة في المدينة
الفاضلة، لا تتحول من حال إلى حال فجأة، وهذا أيضاً من قبل الملكات والأخلاق
الفاضلة التي صار على نهجها أصحابها وربوا عليها، وإنما تتحول شيئاً فشيئاً، وإلى
الأقرب فالأقرب، كان تحول الملكات والهيئات بالضرورة على ذلك الترتيب، حتى إذا فسدت
النواميس غاية الفساد، برزت هناك الأخلاق القبيحة غاية القبح".
ويضيف فيلسوف
قرطبة قائلاً :"ويتبين لك ذلك مما عندنا من الملكات والأخلاق الطارئة بعد العام
الأربعين (540 ه: تاريخ استيلاء، الموحدين على قرطبة) لدى أصحاب السيادة
والمراتب.
وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة الكرامية التي نشأوا عليها، صار
أمرهم إلى الدنيويات التي هم عليها الآن، وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت
به فضيلة الشريعة القرآنية، وهم فيهم قلة" (ف: 358)! وهذه القلة هي التي يقع على
عاتقها التغيير والإصلاح.
* عن كتاب ابن رشد سيرة وفكر. .