بن داوود العامري
ما هو محمود، أما المحمود فهو ما يتعلق بإظهار الحق والدلالة عليه والدعوة إليه،
وهذا الذي أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله سبحانه وتعالى:((
أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))، الجدال
المحمود: ما كان لإظهار الحق بإقامة الأدلة والبراهين على صدقه.
أما النوع الآخر من الجدال فهو الجدال الباطل وهو
أنواع: منه ما يكون الهدف منه طمس نور الحق وشغل أهل الحق عنه، قال تعالى:(( وإن
الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)).
والدافع إلى هذا النوع من الجدال هو
الكِبر في نفوس هؤلاء، كِبر يمنعهم من قبول الحق والعمل به، قال الله تعالى:((إن
الذين يجادلونك في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كِبر ما هم ببالغيه
فاستعذ بالله أنه هو السميع البصير)).
وهذا النوع من الجدال يهلك صاحبه ويضله
ويعميه ويجعله يوم القيامة من الخاسرين، قال تعالى:((ومن الناس من يجادل في الله
بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كُتِبَ عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب
السعير)).
الجدال بالباطل يقود إلى الضلال لقول النبي صلى الله عليه آله
وسلم))ما ظل قوم بعد ما كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، أخرجه الترميذي وابن ماجة عن
أبي أمامة رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني رحمه الله.
هذا النوع من الناس
يبغضه الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم)):إن أبغض الرجال إلى الله
الألد الخصم)) رواه البخاري.
وهذا الصنف الذي يجادل بالباطل يعرض نفسه لسخط الله
جل وعلا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :(( من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل
في سخط الله حتى ينزع)) رواه أبو داوود صححه الألباني، وقد بشر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم تارك المراء ببيت في ربض الجنة فقال:((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك
المراء وإن كان محقاً )) رواه أبو داوود وحسنه الألباني.
الجدال بالباطل شر محض
ويحرم صاحبه العمل الصالح، قال الأوزاعي)):إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل
ومنعهم العمل)).
المسلم ويتبع الحق متى علمه واستبان له بدليله بلا مكابرة، ولا
ينكر الحق والحجة والدليل إلا ساقط وصاحب هوى، قال الشافعي:( ما ناظرت أحداً فأنكر
الحجة إلا سقط من عيني)، وقال الإمام الشاطبي:(فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب
حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث لمن خالفه)، وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية:( وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة) كما كان
الزهري يقول: ( كان علماؤنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة).
وقال عمر بن
عبدالعزيز:( من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل).
وقد أحببت أن أبداً
بالتحذير من الجدل بالباطل لما رأيت من تقحم بعض الجهلة من الناس- هداهم الله-
وتجرؤئهم وجدالهم بالباطل في مسألة زواج الصغيرة وفي غيرها من المسائل و رأيت
اندفاعاً وتهوراً عجيباً والحسرة والإشفاق على هؤلاء وتقولاتهم في دين الله تبارك
وتعالى غير مدركين عاقبة مسلكهم هذا من الضلال والإضلال لغيرهم في هذه المسألة
وهكذا في كل مسأه يقحموها بغير علم ولا حلم ولا رؤية ولا خلفية علمية.
فلهذا لا
بد من البيان إحقاقاً للحق وتبياناً له بدليله وزهقاً للباطل وإسكاتاً لمن جادل
بغير علم وأسال الله تعالى أن ينفعنا جميعاً بالعلم النافع والعمل الصالح، فأقول:
زواج الصغيرة جائز شرعاً، وقد دل على ذلك كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنه نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم، وإجماع أهل العلم.
قال الله تعالى:((واللائي يئسن من
المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر و اللائي لم يحضن)) [الطلاق:4] وهذه
الآية فيها بيان عدة المطلقة إذا كانت صغيرة لم تحض.
قال الإمام البغوي رحمه
الله :( واللائي لم يحصن) يعني الصغار اللائي لم يحضن فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر
[تفسيرالبغوي].
قال ابن القيم رحمه الله :( عدة التي لا حيض لها، وهي نوعان:
صغيرة لا تحيض وكبيرة قد يئست من المحيض، فبين الله سبحانه وتعالى عدة النوعين
بقوله)):واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم
يحضن) أي فعدتهن كذلك) إتتهى [زاد المعاد في هدي خير العباد 5/95].
أما من
السنة: قالت عائشة رضي الله عنها:(تزوجني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا ابنة
ست وبنى بي وأنا ابنة تسع)) متفق عليه.
قال الشوكاني رحمه الله:(وفي الحديث
أيضاً دليل على أنه يجوز تزويج الصغيرة بالكبير، وقد روى البخاري لذلك حديث عائشة ،
وحكى في الفتح الإجماع على جواز ذلك قال: ولو كانت في المهد لكن لا يمكن منها حتى
تصلح للوطء) [نيل الأوطار6/252] وقد زوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته أم
كلثوم وهي صغيرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وزوج الزبير بن العوام رضي الله عنه
ابنته لقدامة بن مظعون رضي الله عنه حين نفست بها أمها رواه سعيد بن منصور وابن ابي
شيبه في مصنفه عن هشام بن عروة عن أبيه [أنظر المغني لابن قدامة 7/379].
لا يلزم
من تزوج الصغيرة وطئها، بل لا توطأ إلا إذا صارت مؤهلة لذلك، ولذلك تأخر دخول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة رضي الله عنها.
قال النووي - رحمه الله :
وأما وقت زفاف الصغيرة المتزوجة والدخول بها: فإن اتفق الزوج والولي على شيئ لا ضرر
فيه على الصغيرة عمل به، وإن اختلفا: قال أحمد وأبوعبيد: تجبر على ذلك بنت تسع سنين
دون غيرها، وقال مالك والشافعي وأبوحنيفة: حد ذلك أن تطيق الجماع، ويختلف ذلك
بإختلافهم، ولا يضبط بسن وهذا هو الصحيح، وليس في حديث عائشة تحديد ولا المنع من
ذلك فيمن أطاقته قبل تسع ولا الإذن فيمن لم تطقه وقد بلغت تسعاً، وقال الداوودي :
وكانت عائشة رضي الله عنها قد شبت شباباً حسناً رضي الله عنها) [شرح مسلم للنووي
9/206].
إما الإجماع: فقد قال ابن عبدالبر رحمه الله :( أجمع العلماء على أن
للأب أن يزوج ابنته الصغيرة لا يشاورها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج
عائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة بنت ست سنين أو سبع سنين، أنكحه إياها أبوها)
[الإستذكار 16/49-50] قال ابن بطال رحمه الله :(وفيه - أي حديث عائشة- أن النهي عن
إنكاح البكر حتى تستأذن مخصوص بالبالغ حتى يتصور منها الإذن، وأما الصغيرة فلا إذن
لها) [فتح الباري 9/283].
قال ابن حجر رحمه الله : ( والبكر الصغيرة يزوجها
أبوها اتفاقاً إلا من شذ) [فتح الباري9/239] قوله ( من شذ ) يشير به إلى ابن شبرمة
الذي عد ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد عليه بقول الله تعالى:(
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وبأن الأصل في أقواله وأفعاله صلى الله عليه
آله وسلم التشريع العام للأمة لا الخصوصية إلا بدليل كما قال ابن القيم ورحمه
الله:( دعوى الخصوصية لا تسمع إلا بدليل) وإن هذا هو فعل الصحابة من بعده صلى الله
عليه وآله وسلم وينقل فيه الإجماع.
قال ابن المنذر رحمه الله:( وأجمعوا أن نكاح
الأب ابنته الصغيرة البكر جائز إذا زوجها من كفء، وأجمعوا أن نكاح الأب ابنه الصغير
جائز) [ الإجماع 2/74].
ممن نقل الإجماع على جواز تزويج الأب ابنته الصغيرة
الإمام أحمد في ( المسائل 3/129)، والمروني (اختلاف العلماء ص125، وبين المنذر
في الإجماع 2/74)، والبغوي في (شرح السنة 9/37) والنووي في (شرح مسلم)، وابن حجر في
( فتح الباري)، والباجي في المنتقى 3/272)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي 5/25 )
والشنقيطي في (مواهب الجليل 3/72م).
الخلاف في هذا شاذ لا يعتقد به كما قاله
الحافظ ابن حجر رحمه الله.
اللهم جنبناً الجدال وأهله وارزقنا الاستقامة في
القول والعمل ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
اللهم أرينا الحق حقاً وارزقنا
إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.