كتاب
لا زال قائماً في تراثنا الديني وفكرنا السياسي المتمثل في الجدل حول طبيعة الحكم
الإسلامي. .
هذه الألغام قوضت حضارة الإسلام وأسلمتنا إلى الإنحطاط إنه من غير
ثورة شاملة تطيح بهذه السموم التي لاتزال تجري في دماء الأمة وتشل طاقاتها وتجهض
انتفاضاتها، فلا أمل في إنطلاقة منتجة للحضارة من جديد في أمتنا.
أشرنا في الحلقة السابقة في هذا الكتاب إلى أنه لا
يزال يضيع شطر كبير من جهودنا ليست في مقاومة الغزو الفكري وبناء مؤسسات الإسلام
ونشره، بل في اجترار الانحطاط وإعادة إنتاجه، وأن أدعياء التشيع يتقولون على "رسول
الله صلى الله عليه وسلم" ليجعلوا نظامه الشوروي كسروية وراثية يتسلمها الأحفاد عن
الأجداد كما يتسلمون المواريث وحاشى لأطهر بيت أن ينسب إليهم دنس النظام
الوارثي. .
تقول أدعياء التسنن على نبيهم فأولو إنابته لأبي بكر في الصلاة على أن
استخلاف وكأن المصطفى وهو الذي أوتي جوامع الكلم أنتظر إلى الغرغرة ولم يقلها في
بيانه التوديعي للأمة في حجة وداعه: "أن أبا بكر خليفتي عليكم".
جدل ينبغي أن
يزول. .
وهل لو خطر مثل هذا الاحتجاج الذميم على بال أحد من أهل الشورى يوم
السقيفة هل كان يتردد في إلقائه والجدل محتدم حول الأجدر بخلافة النبي هل هو الغي
أم الخوف؟ لقد كان الأمر يحسم لو كانت هذه حجة أو شبه حجة وإذا كان الصديق قد تلق
الأمانة بعد ترشيح عمر وأبي عبيدة له في مجلس الشورى في السقيفة وبعد أن قبل هذا
الترشح إثر مناقشة حامية عميقة وبعد بيعة عامة في المسجد هل يتصور أنه قد غدى صاحب
حق أبدي فيها يعهد بها لمن يشاء حتى يظن أن ترشيحه عمراً هو من قبيل الاستخلاف
الملزم كما يوصي الإنسان بأملاكه الخاصة إلى من يشاء؟ وحتى هذا مقيد في الشرع
بقيود؟.
استفسار ينجب الحقيقة: لماذا كانت هناك بيعة عامة لعمر في المسجد؟ هل
كان المسلون يضيعون أوقاتهم في شكليات أم كانوا واعين بأنهم يبرمون عقوداً ويؤدون
واجبات ومسؤوليات؟ هل كان عمر يشعر أنه مسؤول بعد الله الإمام ما استخلفه كما هو
مقتضى ذلك؟ أم كان يشعر أنه مسؤول أمام الأمة لأنها هي التي حملته المسؤولية وأنه
أمامها مدعو أن يقدم الحساب. .
ويتلقى اللوم والتهديد حتى بالسيف إذا جار. . ؟ وقل
الشأن في بقية الخلفاء ومنهم عمر الذي لم يعهد إلى واحد وإنما إلى ستة ليس منهم
قريب من أقاربه. .
وهؤلاء فوضوا إلى ابن عوف ليرشح أحدهم فهل شعر ابن عوف بأن
الأمر انتهى إليه شخصياً يضعه حيث شاء حتى في أولادة وأشقائه أم كان يشعر بأن من
يحمل أمانة المسلمين وأن عليه أن يستمع إليهم رجالاً ونساء لمعرفة مرشحهم؟ وفي
الأخير وعند ما تبين اتجاه الرأي العام وميله نحو عثمان طرحه في المسجد للبيعة
العامة إثر استجواب لهما صريح "عثمان وعلي" أمام الناس يشبه الاستجوابات المتلفزة
للمرشحين للرئاسة لمعرفة السياسية العامة لكل مرشح!، هل كان كل ذلك محض إجراءات
شكلية أم هي قواعد دستورية سنها الآباء بفقه ديني ستنير تنكتب عنها الأحفاد لأنهم
لم يكونوا في مستواها وقد اشربوا رحيق الأكاسرة والأباطرة وبقايا العصبية القبلية
النتنة فأغشى أبصارهم ظلام القرون فما رأوا في دينهم وميراثهم غير النظام الوراثي
السائد؟ وكم راود الثوار علياً رضي الله عنه على تسليمه الخلافة فكان جوابه قطعياً:
"أن مثلي لا يبايع إلا في المسجد فكيف جاز للأحفاد أن يبتدعوا من التراث الشوروي
النير فكرة العصمة والاستخلاف والعهد للأبناء والأقارب والعصبية والمجانين؟" أنها
روح العصر ولكل عصر روحة العامة ولقد كان الإسلام قفزة هائلة وإندفاعه علاقة تخطت
العصور وتحررت من أسر المألوف ولكن ما أن برد وهج الروح وضعفت قوة الدفع حتى عاد
التاريخ في مسألة الحكم إلى سياقة العام مكرساً مع شيء من التعديلات الروح
الإمبراطورية والنظام الوارثي السائدين. .
وجاء العلماء ليسبغوا على روح عصرهم
الشرعية الدينية فكانت العصمة والوراثة والاستخلاف ولم يبق من الخلافة إلا رسمها
بعد أن تحولت إلى ملك حضوض حسب اصطلاح ابن خلدون وذلك لا يعني بحال أن الشريعة قد
انحسرت جملة عن نظام الدولة والمجتمع لا وإنما احتوت روح العصر وطمست بعداً اساسياً
من أبعادها هو نقل السلطة من السماء إلى الأرض ومن النخبة إلى الجماهير.
زلازل
الفتن في تجربة الخلافة: وما ينبغي أن نغفل عن الأثر السلبي للزلزال الذي أحدثته
الفتن الداخلية في باكورة تجربة الخلافة الراشدة الرائدة فلقد كان للحروب الداخلية
التي سرعان ما حولت الخلافة إلى ملك غضوض وقع الزلزال في نفوس المسلمين فضعفت وحتى
انتكست الإنطلاقة التحررية التجديدية للفكر الإسلامي ودبت حتى سادت روح المحافظة
والخوف من التجديد وسد الذرائع لدى جمهرة علماء المسلمين ولم تجد في ذلك المحاولات
المتكررة لأفذاذ الرجال كالغزالي وابن تيمية وابن رشد وابن خلدون وابن حزم بل لم
يسلم هؤلاء من تأثير الروح السائدة في عصورهم بل كثير ما احتوت تلك الروح واستوعبت
وأجهضت القسم الأكبر من محاولاتهم التجديدية وإلا كيف نصدق أن مثل الآراء المتقدمة
حول الاستخلاف تصدر عن فقيه ثائر مثل ابن حزم. . ؟ هل غاب عنه وهو رجل التوثيق
التاريخي بداية قصة أو نكبة الاستخلاف مع الوالي المنشق معاوية بن أبي سفيان وقد
غلبت عليه غفر الله له شهوة الملك عصبيته القبلية لم يكتف بأن انتزاع الأمر من أهله
بل ومضى في الغى لا يلوي على شيء حتى صمم على توريثه كما يورث المتاع لابنه وعشيرته
فجم في قصته مشهورة ثلة من المرشحين للخلافة من الجيل الثاني من الصحابة وأمام ملأ
من الناس قام أحد أعوانه يخطب بصفاقة "الخليفة هذا" مشيراً إلى معاوية فإن هلك
فهذا"، مشيراً إلى يزيد الفاسق "فمن أبي ذلك فليس له غير هذا"، مشيراً إلى سيفه
فقال له معاوية: أجلس فأنت خطيب القوم ومنذئذ بدأ مسلسل الشر والفساد مكرساً
الدكتاتورية والوصاية والعصمة مقصياً الأمة عن حقها مبدداً طاقاتها في جدل عقيم حول
الخلافة والاستخلاف وهذا التقويم السياسي لا يعني أن تاريخ الخلافة يساوي تاريخ
الاستبداد فقد عرف تاريخنا خليطاً من الاستبداد والشورى ولا يعني أن الانحراف
السياسي قد أعدم الصفة الإسلامية للدولة فقد استمرت من خلال التسليم للوحي
بالمشروعية العليا المطلقة في الثقافة والتشريح ولكن دون المستوى النموذجي بكثير
ولا يلغي ما حصل من تعطيل للشورى كأساس لبناء الدولة لأقلمة المد الفكري الهائل
الذي عرفته الأمة من خلال الخمسة قرون الأولى على الأقل ولا دور المجتمع السياسي
والمدني الذي كان فاعلاً متحركاً. .
يموج بالثورات كما كانت سلطة الحكام محدودة
بالشريعة إذ كان العلماء هم سلطة التشريع من خلال تفسيرهم نصوص الوحي كما كانت
السلطة القضائية في أيديهم باستقلال كامل عن الدولة فكان تفسيرهم نصوص الوحي كما
كانت السلطة القضائية في أيديهم باستقلال كامل عن الدولة فكان المجتمع قوياً
بمؤسساته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والقضائية وكان يتمتع
باستقلال كبير عن السلطة. .
ولذلك تركزت خطة الاستعمار الغربي وخلفائه على تدمير
تلك البنية من أجل السيطرة الكاملة.