أونلاين
العربية إلى المسألة الأمنية والتصدي للظاهرة الإرهابية بمختلف أشكالها. .
وعن حق
أكبر تجتهد تلك الدول في تدارك تخلفها ببرامج تنموية بدأنا نلمس ثمارها في العديد
من الأقطار، غير أن الجهدين معا يظلان منقوصين، إن لم نقل مهددين بالانتكاس
والتراجع، في ظل وجود آفة تتفاوت حدّة واستشراء بين قطر عربي
وآخر. .
آفة لا تقل عن الإرهاب
هدرا وخسائر وعن التخلف خطورة. .
إنها آفة الفساد التي يمكن أن يتحول كل جهد
للدولة في ظلها إلى عبث وحراثة في البحر.
وأخطر ما في الفساد قابليته للتحول
سريعا من الطابع الفردي إلى الاختلاط بأجهزة الدول ل"يتمأْسَسَ" من ثمّ ويغدو له
نفوذ يطوّع أجهزة الدول ومؤسساتها وحتى قوانينها وفق أهواء أصحابه ومصالحهم.
ولن
ندّعي أن هذه هي حال الفساد في أقطارنا العربية ولكن المخاطر قائمة وإمكانية حدوث
ذلك تظل واردة حيث لم نعدم وجود حالات تواطأت فيها مؤسسات رسمية وحتى قضائية لحماية
فاسدين ودرء المساءلة عنهم.
ففي مصر على سبيل المثال يدفع المواطن من أرواح
أبنائه ضريبة التساهل مع بعض الفاسدين وغض الطرف عنهم في حوادث انهيار مبان سكنية
مغشوشة ومخالفة للمواصفات، وفي حوادث نقل برية وبحرية عبر وسائل مهترئة لا تلبي
أدنى شروط السلامة ومع ذلك يتمكن أصحابها من الحصول على جوازات استخدامها بما لهم
من نفوذ في "الحزب" والدولة.
وفي الجزائر شدت قضية الفساد بشركة "سونطراك"
للمحروقات الانتباه إليها بتعقدها وبارتقاء التحقيق فيها إلى مسؤولين كبار في
الشركة، الأمر الذي استدعى تدخل أعلى هرم السلطة ليبلغ التحقيق مداه وتتم محاسبة
المورطين في قضية الفساد هذه التي تمس العصب الأكثر حيوية في الاقتصاد الجزائري
ويمكن أن تؤثر على خبز الجزائريين جميعا.
وفي المغرب كشف تقرير لديوان المحاسبة
نشر حديثا عن مخالفات في إدارة عدد من المؤسسات الحكومية والتعاونيات المحلية،
مشيرا الى سوء إدارة وإهمال في مؤسسة "المغربية للألعاب والرياضة"، والمؤسسة العامة
للنقل، وجامعة القاضي عياض في مراكش، ووزارة الطاقة والمناجم، والمكتب الوطني
للمطارات.
وتدل هذه الأمثلة على أن ظاهرة الفساد موجودة فعلا في أقطارنا
العربية، وأنه يحسن التعاطي معها ومقاومتها بدل حجبها وإنكارها، وقبل أن تتحول إلى
أخطبوط يمد أذرعه إلى كل القطاعات والمصالح، وإلى فيروس ينخر بلداننا التي ما يزال
الكثير منها يحبو في بداية درب الاستقرار والتنمية.
فالفساد يمكن أن يتحوّل إلى
أكبر معطل للتنمية بهدر أموالها المخصصة لها وتحويلها إلى جيوب وحسابات أفراد بدل
صرفها في مشاريع تخدم الصالح العام وذات منافع دائمة مثل البنى التحتية وبعث مواطن
الشغل.
كما أنه يمكن أن يتحول إلى ضرب من الإرهاب لأن الفاسدين على استعداد
للتحالف مع الشيطان في سبيل المصلحة الفردية العاجلة.
ومن ثمّ إمكانية تحالف
الفساد مع الجريمة المنظمة في إغراق المجتمعات بالسموم كالمخدرات وبالمواد الخطرة
على الصحة العمومية مثل الأدوية منتهية الصلاحية، وحتى بالأسلحة إن اقتضت مصالح
الفاسدين ذلك.
وحتى لا نقتصر في نظرتنا على الجزء الفارغ من الكأس نقول إن إرادة
مقاومة الفساد والتصدي له متوفرة لدى دولنا العربية، ولا أدل من نشر "ديوان
المحاسبة" في المغرب تقريره آنف الذكر الذي لقي ترحيبا في وسائل الاعلام ولدى
منظمات غير حكومية وشخصيات سياسية وفكرية.
ولكن الذي يبقى مطلوبا هو مضاعفة هذا
الجهد القُطري وتنسيقه على المستوى العربي عبر مؤسسات قوية ومستقلة تستلهم التنسيق
في المجال الأمني عبر مؤسسة مجلس وزراء الداخلية العرب، ولم لا في نطاق ذات
المؤسسة، وعن طريق جهاز أمني مختص تتاح له صلاحيات تخول له ملاحقة الفاسدين وجلبهم
حتى من خارج حدود بلدانهم عبر مجموعة من الاتفاقيات توقع بشكل جماعي بين العرب
وباقي دول العالم بحيث لا يبقى هناك ملاذ آمن في العالم لأي من سراق المال العام في
وطننا العربي الكبير.
إن مقاومة الفساد تمرّ أولا عبر إحكام الرقابة على الأموال
العمومية وأوجه صرفها ومتابعة إنجاز المشاريع وفق المواصفات المطلوبة.
ولا يتم
ذلك إلا بإحكام القوانين وضبط هياكل الرقابة وضمان استقلالها وحرية عملها وتمتعها
بالسلطات الكافية لممارسة عملها بعيدا عن كل اشكال الإغراء والترهيب، وأيضا الحفاظ
على هيبة القضاء واستقلاله.
غير أن كل ذلك يبقى غير كاف ما لم يسند بجهد تثقيفي
يهدف إلى نشر الوعي بين المواطنين العرب بأن مصلحة الفرد من مصلحة المجموعة، وأن
الحفاظ على المال العام الذي يمكن أن يكون في شكل تجهيزات ومرافق يبقى مسؤولية
جماعية لا تقتصر على الدولة وحدها.
وبمنتهى الصراحة نسجل غيابا للحس المدني
والغيرة على الصالح العام لدى الغالبية العظمى من مواطنينا العرب، بينما نسجل في
المقابل انتشارا لعقلية المغنم الشخصي والخلاص الفردي كوجه من أوجه ضعف ثقافة
الانتماء للمجموعة والتي تتجسد في أبسط السلوكات اليومية في الشارع ووسائل النقل
والملاعب الرياضية وحتى داخل الإدارات العمومية ومن قبل موظفيها ذاتهم حيث لا حصانة
ولا احترام لأي من التجهيزات والوسائل التابعة للدولة وفي ذلك تربة خصبة لبذرة
الفساد ونموّها.
كذلك يبقى لوسائل الإعلام دور في منتهى الأهمية في مقاومة
الفساد والحد من انتشاره والتنبيه إلى مواضعه وفضح أصحابه، ولنا في الصحافة الغربية
أسوة حيث يتقدم الكثير من الصحفيين على أكبر القضاة وأمهر المحققين في كشف قضايا
فساد كبرى ما كان لها أن تكشف لولا جهود هؤلاء الصحفيين وفطنتهم
وشجاعتهم.
"افتتاحية صحيفة العرب العالمية.