كتاب
وتجاربنا السياسية لإنتاج أنظمة ديمقراطية وفشل أجهزتنا القضائية ومشاريعنا في
الوحدة وفي تحرير فلسطين وتنافس طبقات النخبات الحاكمة وقسوة المعارضة لها يدل على
الدخول في عهد بين إسرائيل احد الأسباب في فشل المدرسة وسائر أوعية
التربية..
أشرنا في الحلقة
السابقة من هذا الكتاب إلى أن ما قال به أصحاب المذهب الليبرالي في القرن التاسع
عشر وما يقولون به في هذا القرن هو ما قال به الإسلام في القرن السابع والسياسة
الاقتصادية هي في أرفع مفاهيمها تحتاج إلى جو سياسي مشجع ومناخ نفسي مساعد وظروف
اجتماعية هادئة وقوانين عادلة..
يمكن تلخيص كل ذلك في ما أصطلح على تسمية
بالديمقراطية في معناها الواسع والشامل بقدر ما تكون الحياة السياسية شفافة وواضحة
يعرف كل فرد وكل مؤسسة وكل تنظيم وكل هيئة..
مكانه وحدوده وواجباته وحقوقه تكون
الحياة الاقتصادية والأنشطة المنتجة كذلك، لهذا نقدر أن الشرط الأساسي لنجاح سياسة
اقتصادية أن يسود المجتمع جو الجدية والثقة والأمان والطمائنينة إلا أن ذلك لا يكفي
وحده لإنتاج القمح أو الأدب أو المواد الاستهلاكية غير أنه حافز لا غنى عنه ونحن
نكتفي في موضوع السياسيات الاقتصادية على التأكيد على ارتباط الاقتصاد بجملة
المفاهيم العقائدية الإسلامية التي تؤطر كل مؤسسات المجتمع الثقافية والتربوية
وسياسات الدولة الداخلية والخارجية وأخيراً لابد من التذكير ثانية أن السياسة
الإقتصادية المثلى هي التي تنجز لصالح السواء الأعظم من المواطنين وموافقة غالبيتهم
في جو من الحرية والشفافية وأن كل ما عدا ذلك هو استبداد لفئة واستحواذ منها على
مقدارات الشعب مما يهدد التوازن والسلم الاجتماعي ويدمر مؤسسات المجتمع والبيئة،
ويضع البلاد في حرب أهلية أو على حافتها وهو عين ما يحدث تحت ضغط منظمات دولية
بدعوى تحرير الاقتصاد.
وذلك خشية أن تنهض القوى بدورها في ترشيد المجتمع وتحديد
السياسة الاقتصادية للبلاد في اتجاه تنمية مستقلة تحقق قوة الأمة وحريتها وعزتها
وأنعتاقها من التبعية فإن أولى الإجراءات الواجب على حكومة ديمقراطية أن تتخدها هي
إعادة الكلمة للمجتمع والمواطن ليعيد تنظيم صفوفه من أجل المساهمة الحقيقية في
تطوير الحياة الاقتصادية وإطلاق المبادرة ودعم مؤسسات المجتمع والحد من هيمنة
الدولة وتعبئة عناصر المقاومة والتحدي لدى شعوبنا من أجل تنمية مستقلة متوازنة في
أطر وبواعث عقدية وسياسية معبر عن إرادة وضمير أمتنا تعيد التوازن بين الدولة
والمجتمع الصالح هذا الأخر واستقلاله وأكتفائه واستغنائه عنها في معظم مقومات حياته
فينهض العمل الاقتصادي ضمن نهضة شاملة لا فقط بتحقيق مجرد الكفاية فحسب للفرد،
وإنما يسهم أيضاً في عملية تحريره من دكتاتورية ا لدولة من خلال تحريره من سيطرتها
على حاجاته، كما يسهم إسهاماً معتبراً في تأسيس ودعم سلطة الامة على حكامها وتحريها
من التبعية للخارج وتحقيق عزته ووحدتها وتحرير أراضيها وإرادتها ونصرة كل مظلومٍ،
وإطعام كل جائع والدفاع عن الإسلام عقيدة الأمة وأساس عزتها..
وحمل رسالته على
أن تتم علمية تحجيم الحكومة بالتدريج على قدر ما يحققه المجتمع من استقلال
واستغناء..
ذلك أن عدم توافر الكفاية للمواطن يفرض وضعاً استثنائياً تستباح فيه
الملكية الخاصة - وتعطيل الحدود أو بعضها.
المدنية خصوبة لا حد لها لقد كانت
الحلقات المسجدية أنسب الأشكال لغرس روح المساواة والأخوة والشورى وإتاحة المجال
يسيراً للحوار وتبادل المعرفة والرأي وكانت الصلاة بما تحرض عليه من رص الصفوف
والانضباط في إتباع الإمام والاستماع إليه وتقويمه عندما يخطئ ومفارقته عندما يصر
على مخالفة النهج العام في الصلاة، تجسيداً لروحانية الإسلام الشوروية الاجتماعية
التي تقوم على الانضباط للشريعة وللقيادة ما نهجت نهج الشريعة مع ملازمة اليقظة
للنصح عند الخطأ والخروج عند الإصرار عليه.
لقد كانت خصوبة النواة المسجدية في
المدينة لا حد لها ..
فما مضى على عملها زمن بعيد حتى تخرج منها جيش من العلماء
والقادة الذين فتحوا القلوب بأنوار المعرفة وإشاعة الحرية والعدل قبل أن يفتحوها
بالسيوف وكثيراً ما استغنى نور العلم عن حد السيف حتى أن المسلمين الذي ما عرفت
بلادهم سيف الإسلام يربو اليوم على أهل البلاد التي عرفته وكثيراً ما سقط السيف
وثبت العلم والنور.
فرض الأخوة إن الإسلام الذي دعا إلى الإيمان بالله ((قل
آمنوا به أو لا تؤمنوا)) باختيار هو الذي فرض الأخوة بين المسلمين
والمسالمين.
وما تركها دعوة مجنحة إلى الإيمان والأخوة بل أرسى دعائم مجتمع
الإيمان والأخوة والتوحيد والوحدة على أسس الاشتراك في الأمر العام أو السياسة
العامة ((وشاورهم في الأمر)) فلا استبداد ولا وصاية والاشتراك في بركان العلم
والثقافة "العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"..
بلا صفوية ظالمة.
والاشتراك في
الرزق "المال مال الله" وإذا جاع مسلم وعرى فلا مال لأحد.
وهذه الروح الجماعية
التي غرستها عقيدة التوحيد ظلت تناضل للدفاع عن وحدة المجتمع المسلم واستيفاء قدر
المشاركة حتى في أشد عهود الاستبداد فكانت المساجد مؤسسات شعبية للجميع يتفق عليها
الشعب عن طريق الوقف وكانت مشاريع التكافل كالتكايا والزوايا والمصحات وما إليها من
المشاريع الخيرية الشعبية، تجسد روح الإيمان والأخوة وما يشعر به المؤمن من التكليف
الإلهي للقيام بالأمر العام وحراسة الدين وسياسة الدنيا وهو تكليف تلك مسلم يسقط
عنه إذا قامت عليه الدولة..
ليتعلق به بالقدر الذي تتخلى عنه فهناك مد وجزر بين
ولاية الفرد وولاية السلطة إذ الولاية في الإسلام أي إقامة الدنيا وتدبير المصالح
العامة فرض على كل مسلم يقوم به بقدر ما يتخلى الآخرون عنه والمهم أن لا تتعطل
الشريعة ولا تضيع المصالح ا لعامة.
أزمة تربية تعاني التربية في بلادنا - بلاد
العرب والمسلمين - على الرغم ما استنفذته من جهود طائلة وارصده هائلة، أزمة حادة من
مظاهرها تحلل أجيالنا المعاصرة وضعفها في مجابهة ما تزخر به مجتمعاتنا من فنون
الإغراء وانسياقها وراء كل ما نبع في الغرب من مذاهب وتيارات، وخاصة التيار المادي
الأمر الذي مثل تهديداً حقيقياً لوحدتنا القومية والوطنية وجعل نخبتنا ممزقة
ومعزولة عن ثقافة الجماهير وضعفية الإحساس بمشاعرها ومشاركتها قيمها
ومواريثها..
وجعل الخطاب الرسمي وهو جزء من خطاب النخبة المنيئه يتجه إلى مزيد
من العزلة والاغتراب مثلما هو عليه أمر إنتاج تلك النخبة عامة، أدبياً كان أو
إعلامياً أو فنياً وعلى قدر إحساس تلك النخبة بالغربة عن الجماهير على قدر اتجاهها
إلى .
الحاجز بين الحاكم والجمهور اعتماد متصاعد لوسائل القوة في التعامل مع
الجماهير وأشواقها إلى العدل والحرية والوحدة والهوية وافتقاد الصدق في مخاطبتها
والإغراق في الكذب والنفاق على أمل أن تنطلي على الشعب كذبة أن هذه النخبة هي جزء
من الشعب تؤمن بعقائده وتحس بإحساسه..
ففي المناسبات الرسمية يذهب المسؤولون إلى
المساجد للاحتفال بالأعياد الدينية مع أن الجميع يعرف أنهم لا يؤمون بتلك الشعائر
ولا يمارسونها إلا نفاقاً ثم تكثيف الحوافز بين النخبة الحاكمة والجماهير حتى لا
تطلع الجماهير على حقيقة تلك النخباة المتعرية بل أصبح لتلك النخبا المتعرية
أحياؤها الخاصة وأسواقها ومدارسها وحتى جامعاتها أنها لا تكاد تختلف في علاقتها
بالشعب عن الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا لولا الاشتراك في اللون.
طغى روح
الانتهاز واللامبدئية في علاقة النخبة التي صنعتها المدرسة الحديثة مع السلطة
القائمة أياً كان لونها من أجل قضاء مآرب شخصية حتى ولو كان ذلك على حساب
الأخلاق.