كتاب
حكومة ديمقراطية اتخاذها إعادة الكلمة للمجتمع والمواطن ليعيد تنظيم صفوفه من أجل
المساهمة الحقيقية في تطوير الحياة الاقتصادية، والشرط الأساسي لنجاح سياسة
اقتصادية أن يسود المجتمع جو الجدية والثقة والأمان والطمأنينة، إلا أن ذلك لا يكفي
وحده لإنتاج القمح أو المواد الاستهلاكية، غير أنه حافز لا غنى
عنه. .
أشرنا في الحلقة السابقة من
هذا الكتاب إلى طغيان روح الانتهازية واللامبدئية في علاقة النخبة التي تصنعها
المدرسة الحديثة من أجل قضاء مآرب شخصية ولو كان ذلك على حساب الأخلاق ومعايير
القيم التي ترفع لوائها وعلى حساب مصالح الجماهير الحيوية. .
لقد اعتادت السير
تلك النخب في ركاب كل قائم تتدافع بالمناكب على بابه وقد يبلغ بها الأمر أن تبذل
العرض والدين والواجب الوطني، وهي خلال تزاحمها على أعتاب الطاغي قد يرفس بعضها
بعضاً فتتبادل الكيد وهي على قدر إيغالها في المثالية القولية على قدر مكيافيليتها
على صعيد الواقع والممارسة ولا يغرنك منها دعواها العريضة ومثيلتها في الرخاء
فهشاشتها بلا حدود عند الشدة وذلك بسبب مثالية النهج التربوي الذي سلكته والذي يقوم
على الازدواج الثقافي، الأمر الذي يجعلها بين عالمين لا سيما وهذا النخبة تنتمي
بالأصالة أو بالاستحقاق إلى الأوساط المدنية الرخوة التي أفرزتها غالباً حيث
التنافس على الزخارف، لقد توارت وألفت الازدواج والتباين بين حياة الفكر وطبيعة
الواقع حتى تحولت هذه النخب في معظمها من أمل للشعب في التغيير نحو الأمثل كيف لا
وقد استثمر الشعب فيها أرصدة عظيمة إلى عقبة كؤود وكابح لحركة الجماهير نحو
الثورة والتغيير وعامل تثبيط ودعم للسلطة بحجة انعدام البديل وكأن البديل سينزل من
السماء!، أو حذر القفز في المجهول وقد يبدي بعضهم تعففاً عن الحياة السياسية لتبرير
قعوده عن مناصرة المظلومين والمقهورين وقضايا الحرية والعدل فيبدو زاهداً معتكفاً
في صومعته الفكرة ولكن ذلك مظهر خادع غالباً فإنما هو يتحين الفرصة لتلبية أول
إشارة من السلطة ليهرول في خدمتها.
إن المثقفين الذين يعتقدون أنهم خارج اللعبة
السياسية ويشمئزون من العمل السياسي ويحتمون بعامل الفكر لو راجعوا بصدق لوجدوا أن
99% منهم وعلى مدى ثلاثين سنة خلت لجأوا إلى الصيغ الأكثر انتهازية في العمل
السياسي بصفة مباشرة أو غير مباشرة خدمة لصاحب النفوذ، لقد سعوا إلى تثبيت وتحقيق
مصالحهم الذاتية عبر التفاعل مع أجهزة السلطة.
إن ساحتنا الثقافية والفكرية
والاجتماعية بالخصوص تخلو أو تكاد من رموز لم تتورط أو تتواطأ مع دوائر الحكم طيلة
عشرين سنة على الأقل، إن أزمة أوطاننا التي خضعت للتحديث أزمة نخبة أوقعها تكوينها
الثقافي في قطيعة مع ثقافة الجماهير وهمومها فتخلت عن الدور الذي كان يقوم به
العلماء في المجتمعات الإسلامية التقليدية حيث كانوا يقومون بدور "حلقة وصل بين
السلطة والجماهير يرفعون مطالبها أو يعرضونها على السلطة ويمنحون السلطة مقابل
تلبية تلك المطالب أو بعضها شرعية دينية أما نخبة التحديث العلماء الجدد فقد قطعهم
التحديث عن الجماهير واستضعفتهم السلطة ووظفتهم في تبرير سياستها لدى الجماهير
مقابل ما تجود به عليهم من امتيازات على حساب الجماهير، والاتجاه إلى مزيد من
الارتماء في أحضان الغرب احتماءً من غضب الجماهير. .
الأمر الذي يجعل مدارسنا تلك
المسؤول الأول عن استمرار أوضاع الدكتاتورية واغتراب النخبة ووقوعها في الأسر
وزرعها في جسم الأمة عناصر فتك وتفكيك وحماية للمصالح الأجنبية.
* فشل المطرودين
من المدرسة: ومن مظاهر أزمة التربية على المستوى الكمي ضعف الاستيعاب والانتقائية
وكثرة المتساقطين حتى أنه لا يكاد يتحصل من بين مائة تلميذ مثلاً دخلوا المدرسة
الابتدائية على أكثر من "1 %"، فهناك جيش من المطرودين الذين حطمت المدرسة آمالهم
وآمال ذويهم في الوصول إلى مستوى أفضل فأصبحوا محيطين لا هم بقوا على حالهم الموروث
متفاعلين مع بيئتهم منتجين فيها على غرار آبائهم ولا هم نجحوا في تغيير
أوضاعهم. .
الأمر الذي يجعلهم فريسة للحلول اليائسة.
أما على المستوى الكيفي
فسواء تعلق الأمر بالمستوى العلمي أو بالمستوى الخلقي أو بمستوى عمق الشعور
بالانتماء والاعتزاز به فكل ذلك شاهد على فشل ذريع للمدرسة في تخريج الأكفاء علماء
وخلقاً وديناً بالانتماء.
ومن مظاهر الأزمة ظاهرة العنف في علاقة الدولة مع
المجتمع ويكفيك أن تتابع تقارير المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية والمحلية عن
فظائع الانتهاكات لحقوق الإنسان في البلدان العربية التي تمارسها أجهزة الدولة ضد
المعارضين السياسين، يكفيك أن تطالع تلك التقارير لتحكم بفشل ذريع لكل مؤسساتنا
التربوية في تخريج جيل له ضمير وإحساس إنساني يحترم كرامة البشر ويقر بحق الاختلاف
واعتماد أساليب الحوار في فض المنازعات بقطع النظر عن المستوى العقلي والعلمي لهذا
الجيل وماذا عساها ستنتفع أوطاننا من نخبة إذا تحدثت كذبت ونافقت وإذا حكمت ظلمت
وجارت وإذا أؤتمنت سرقت وخانت وزيفت الحقائق وحولت البريء إلى مجرم وإذا لقيت العدو
وقلما تفعل جبنت وخارت.
لقد خرجت المدرسة الحديثة جيلاً ميت القلب ذليل النفس
ممزق الشخصية لا تحكمه غير رغباته ومنطق السهولة والانتهاز والعنف فأنى لها بصنع
الحداثة!؟.
* الفشل في تحرير فلسطين: إن فشل مخططاتنا الاقتصادية وتجاربنا
السياسية لإنتاج أنظمة ديمقراطية وفشل أسرنا وفشل أجهزتنا الفضائية وفشل مشاريعنا
في الوحدة وفي تحرير فلسطين وتنافس طبقات النخب الحاكمة وحتى المعارضة لها، يدل ذلك
على الدخول في عهد بني إسرائيل دليل آخر على فشل ذريع للمدرسة ولسائر أوعية التربية
، وأنه ليس من قبيل المصادفة اليوم أن الشعارات الثورية التحريرية الكبيرة التي
حملتها النخبة العلمانية التي قادت الوطن العربي والإسلامي طيلة نصف قرن لتحرير
فلسطين والوحدة العربية والتضامن الإسلامي والتصدي للامبريالية قد انهارت وتحول
معظم حملتها إلى الصنف المقابل يفلسفون للهزيمة والاستسلام ويعملون في ركاب الأنظمة
الجائرة على شعوبها الحائرة أمام العدو والتي خلا خطابها من كلمة تحريض وعداء ضد
أية جهة غير ما سمته بالأصولية مع أنها وبسبب ذلك هي الكتلة الشعبية التي ظلت حاملة
إرث كل التيارات الثورية وأهدافها في الحرية والوحدة والعدالة وتحرير فلسطين
والتصدي للهجمة الامبريالية.
وفي مؤتمر القمة لم تكن مصادفة أن كان السودان
الدولة الوحيدة التي طالبت برفع الحصار عن العراق والدولة الوحيدة التي لم تدع إلى
اجتماعات التسوية.
* حقيقة الأزمة: والأزمة في حقيقتها ليست أزمة نقص في التعليم
وضعف وسائله وإمكانياته بقدر ما هي أزمة انحلال في شخصيتنا الحضارية، إنها أزمة
فقدان النموذج الحضاري، إنها فقدان الديمقراطية بل الأساس الثقافي الأصيل الذي تبنى
عليه المدرسة وسائر مؤسسات المجتمع، ذلك أن البلاد المتخلفة على الرغم من الجهود
الطائلة التي تبذلها في مجال التعليم والتربية فإن المشرفين فيها على حظوظ التربية
ليسوا على بينة من ملامح وسمات النموذج الثقافي والحضاري للإنسان الذي يريدون تلك
البرامج أن تصنعه. .
أن مثلهم كمثل جمع من البنائين السذج الذين يجهدون أنفسهم في
تكديس أطنان من الحجارة وأكياس الأسمنت والآجر والماء والحديد دون أن يكون لديهم أي
مخطط سابق لنوع البناية التي يريد كل أن يعمل كل بحسب اختصاصه على إنجاز الجزء
المعهود إليه ضمن المخطط المرسوم، حتى إذا استفرغوا جهدهم في عملية التكديس هذه،
وانتظروا أن ينبثق من وسط ذلك الركام قصر منيف فلم يروا غير أكداس
وأكوام. .
هالهم الأمر واستولت عليهم الدهشة.