;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «3» 1801

2010-07-20 04:40:44

صفحة من
كتاب


لنستعن بادئ ذي بدء، في تلمس الجواب
عن هذه الأسئلة، بالتمييز المشهور الذي أقامه لالاند Lalande بين العقل المكون أو
الفاعل La raison constituante والعقل المكون أو السائد La raison
constituantee. . الأول يقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث

والدراسة والذي
يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، وبعبارة أخرى إنه: "الملكة التي يستطيع بها كل إنسان
أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع
الناس"، أما الثاني فهو: "مجموع المبادئ والقواعد التي
نعتمدها في
استدلالاتنا"، وهي على الرغم من كونها تميل إلى الوحدة فإنها تختلف من عصر لآخر،
كما قد تختلف من فرد لآخر. . يقول لالاند:"إن العقل المكون والمتغير ولو في حدود، هو
العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة، فإذا تحدثنا عنه بالمفرد "= العقل" فإنه يجب
أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وفي زمننا"، وبعبارة أخرى إنه: منظومة القواعد
المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تعطى لها خلال تلك الفترة قيمة
مطلقة".
إذا نحن تبنينا هذا التمييز أمكن القول أن ما تقصده ب"العقل العربي" هو
العقل المكون، أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين
إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو لنقل: تفرضها عليهم كنظام معرفي، أما العقل المكون
فسيكون هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان، أي "القوة الناطقة" بإصطلاح
القدماء، وبهذا الاعتبار يمكن القول أن الإنسان يشترك مع جميع الناس، أياً كانوا،
وفي أي عصر كانوا في كونه يتوفر على عقل مكون وينفرد هو ومن ينتمي معه إلى نفس
الجماعة الثقافية بعقل مكون والذي هو عبارة عن النظام المعرفي "مفاهيم، تصورات. . "
الذي يؤسس الثقافة التي ينتمون إليها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أهمية هذا التمييز
بين العقل الفاعل والعقل السائد، بالنسبة لموضوعنا، فيجب ألا نغفل علاقة التأثير
والتأثر القائمة أبداً بينهما، فمن جهة ليس العقل السائد شيئاً آخر غير تلك المبادئ
والقواعد التي أنشأها وينشئها العقل المكون الفاعل، وهذا بتأكيد لالاند نفسه:
فالعقل السائد ، أي جملة المبادئ والقواعد الذهنية السائدة في فترة زمنية ما، هو من
إنتاج العقل الفاعل، أي ذلك النشاط الذهني الذي يتميز به الفرد البشري على الحيوان،
فمصدره إذن في العقل نفسه لا خارجه، ومن جهة أخرى فالعقل المكون الفاعل، يفترض
عقلاً مكوناً كما يقول ليفي ستراوس، وهذا يعني أن النشاط العقلي الفاعل إنما
يتم إنطلاقاً من مبادئ وحسب قواعد، أي إنطلاقاً من عقل سائد، الشيء الذي يغرينا على
القول أن العقل العربي هو، حتى في مظهره الفاعل، من نتاج الثقافة العربية، وكذلك
الشأن بالنسبة لأية ثقافة أخرى والعقل المنتمي إليها، الشيء الذي يخفف من الاعتراض
القائل ب"كلية" العقل أو "كونيته" ، فالعقل كوني ومبادئه كلية وضرورية. .
نعم،
ولكن فقط داخل ثقافة معينة أو أنماط ثقافية متشابهة، وكما يقول لالاند نفسه فإن
العقل المكون "ينزل منزلة المطلق من طرف أولئك الذين لم يكتسبوا، في مدرسة
المؤرخين أو مدرسة الفلاسفة ، الروح النقدية، أولئك الذين يحكمهم العقل السائد الذي
أنتجه عقل أجدادهم الفاعل، عقل ثقافتهم التي يعتبرونها الثقافة الوحيدة والممكنة،
أو على الأقل العالم الثقافي الخاص بهم.
لقد توخينا من الملاحظات السابقة العمل
على تحديد أولي لموضوعنا: "العقل العربي" وقبل أن نخطو خطوة أخرى تمكننا من توضيح
الحدود التي رسمناها في الفقرات السابقة نرى من المفيد هنا التنبيه إلى أن
التحديدات والملاحظات الأخيرة تبرر العمل الذي ننوي القيام به هنا: "نقد العقل
العربي" ، وذلك من زاويتين: فمن جهة يمكن النظر إلى "العقل العربي" بوصفه عقلاً
سائداً قوامه جملة مبادئ وقواعد تؤسس المعرفة في الثقافة العربية ، وفي هذه الحالة
يكون من الممكن جداً القيام بتحليل موضوعي علمي لهذه المبادئ والقواعد التي تشكل،
في ذات الوقت ، أساسيات المعرفة، أو نظمها، في الثقافة العربية،ومن جهة أخرى يمكن
النظر إلى العقل العربي بوصفه عقلاً فاعلاً ينشئ ويصوغ العقل السائد في فترة
تاريخية ما، الشيء الذي يعني أنه بالإمكان إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة تحل محل
القديمة، وبالتالي قيام عقل سائد جديد، أو على الأقل تعديل أو تطوير، أو تحديث أو
تجديد، العقل السائد القديم.
وأوضح أن هذا لن يتم إلا من خلال نقد العقل السائد،
ووأضح كذلك أن عملية النقد هذه يجب أن تمارس داخل هذا العقل نفسه من خلال تعرية
أسسه وتحريك فاعلياته وتطويرها وإغنائها بمفاهيم واستشرافات جديدة نستقيها من هذا
الجانب أو ذاك من جوانب الفكر الإنساني المتقدم، الفكر الفلسفي والفكر
العلمي.
بعد هذا التنبيه الذي أثبتناه هنا توضيحاً للهدف الذي نتوخاه من هذه
الدراسة، ننتقل الآن إلى الخطوة التالية على سلم المقاربات الأولية لموضوع دراستنا:
"العقل العربي" ، يتعلق الأمر هذه المرة باستثمار المقارنة مع "العقل اليوناني"
و"العقل الأوروبي" الحديث والمعاصر.
3 عندما نتحدث عن "العقل العربي" أو عن
"الثقافة العربية" فإننا نصدر، سواءً صرحنا بذلك أم لم نصرح ، عن موقف يسلم بوجود
"عقل" و"ثقافة" أو "عقول" و"ثقافات" أخرى يتحدد بالمقارنة معها العقل والثقافة
اللذين نتحدث عنهما ، هذا شيء لا مفر منه إذ بضدهما تتميز الأشياء كما كان يحلو
لأجدادنا أن يقولوا ويكرروا القول.
ودون الدخول في تفاصيل قد تجرنا بعيداً عن
إطار التمهيد الذي يريد هذا الفصل الاضطلاع به نرى من الضروري اختصار الطريق والكشف
صراحة عن "الضد" أو "الأضداد" التي سنستعين بها، من خلال المقارنة معها، في تحديد
هوية "العقل العربي"، علماً بأن كلمة ضد هنا لا تعني التعارض والتنافر بل مجرد
الاختلاف. .
إننا عندما نتحدث عن "العقل العربي" فنحن نميزه في نفس الوقت عن
"العقل اليوناني" والعقل الأوروبي" الحديث.
لماذا فقط: العرب، واليونان،
وأوروبا؟ ليس الجواب عن هذا السؤال من الصعوبة بقدر ما قد يتصور البعض، خصوصاً وقد
حددت الصفحات الماضية الإطار الذي يرسم للأسئلة التي نطرحها، اتجاهها ومغزاها،
فانطلاقاً من هذا الإطار نقول: إن المعطيات التاريخية التي نتوفر عليها اليوم
تضطرنا إلى الاعتراف للعرب واليونان والأوروبيين بأنهم وحدهم مارسوا التفكير النظري
العقلاني بالشكل الذي سمح بقيام معرفة علمية أو فلسفية أو تشريعية منفصلة عن
الأسطورة والخرافة ومتحررة إلى حد كبير عن الرؤية "الإحيائية" التي تتعامل مع أشياء
الطبيعة كأشياء حية، ذوات نفوس تمارس تأثيرها على الإنسان وعلى إمكانياته
المعرفية.
صحيح أنه كان بكل من مصر والهند والصين وبابل وغيرها حضارات عظيمة،
وصحيح كذلك أن شعوب هذه الحضارات قد مارست العلم: انتجته وطبقته، ولكن صحيح كذلك أن
البنية العامة لثقافات هذه البلدان، مهد الحضارات القديمة، هي حسب معلوماتنا
الراهنة بنية بشكل السحر أو ما في معناه، وليس العلم ، العنصر الفاعل والأساسي
فيها.
إن الحضارات التي مارست التفكير العلمي بوعي فأنتجت الفلسفة والعلم هي تلك
التي كان العقل يمارس داخلها، لا نقول السيادة المطلقة، بل درجة من السيادة لا تقل
عن تلك التي كانت للسحر أو غيره من ضروب "التفكير" اللاعقلي في الحضارات التي لم
تنتج المعرفة العلمية والفلسفية، المنظمة المعقلنة.
وإذا شئنا الفصل في هذه
المسألة من المنظور الذي نتحرك فيه في عملنا هذا ، قلنا: إن الحضارات الثلاث
اليونانية والعربية والأوروبية الحديثة هي وحدها التي أنتجت ليس فقط العلم، بل
أيضاً نظريات في العلم، إنها وحدها في حدود ما نعلم التي مارست ليس فقط التفكير
بالعقل بل أيضاً التفكير في العقل.
"التفكير في العقل" درجة من المعقولية أسمى
بدون شكل من درجة "التفكير بالعقل"، فلنجعل مرتكزنا في المقارنة مقصوراً على
الثقافات التي تشترك مع الثقافة العربية في هذه الخاصية،وهي كما قلنا الثقافة
اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة، ولنتساءل: كيف يتحدد العقل داخل كل واحدة من
هذه الثقافات الثلاث: لنبدأ بالثقافة اليونانية فهي أسبق تاريخياً: يقول كوسدورف:
"يتحدد نظام كل ثقافة تبعاً للتصور الذي تكونه لنفسها عن الله والإنسان والعالم
وللعلاقة التي تقيمها بين هذه المستويات الثلاثة من نظام الواقع"، وإذا نحن أردنا
أن نتبين نظام الثقافة اليونانية كما يتحدد في خطابها الفلسفي وجب علينا الرجوع إلى
كل من هراقليطس وأناكساجوراس، لقد حدد هذان الفيلسوفان، كل على شاكلته، العلاقة بين
الله والإنسان والعالم بصورة تعبر فعلاً ليس فقط عن نظام الثقافة اليونانية كما
عبرت عنه الفلسفة، بل أيضاً بصورة تستعيد، عقلياً ، هيكل التصور الميثولوجي
"الأسطوري" السابق للفلسفة والمباطن لها بصورة من الصور تختلف من فيلسوف
لآخر.
كان هراقليطس فيما يذكر مؤرخو الفلسفة أول من قال بفكرة "اللوغوس" أو
العقل الكوني" فلكي يفسر هذا الفيلسوف النظام السائد في الكون، بعيداً عن
الميثلوجيا والأساطير، قال بوجود "قانون كلي" يحكم الظواهر ويتحكم في صيرورتها
الدائمة الأبدية.
والعقول البشرية تستطيع التوصل إلى معرفة صحيحة عن ظواهر
الطبيعة إذا هي "شاركت" في العقل الكلي ، أي إذا هي اجتهدت في البحث في نظام
الطبيعة وأدركت ما يتصف به هذا النظام من ضرورة وشمول، لقد تصور هيراقليطس العقل
الكوني La raison universelle على أنه محايث للطبيعة ومنظم لها من داخلها، فهو
بالنسبة للعالم أشبه بالنفس بالنسبة للإنسان، النفس لا بوصفها "جوهراً" مستقلاً
متميزاً عن البدن، بل بوصفها مبدأً لحركته، منتشراً في جميع أجزائه،ولذلك كان هذا
العقل أشبه ما يكون ب"نار إلهية لطيفة"، بل هو "نور إلهي" ، هو حياة العالم
وقانونه، والنفس البشرية قبس من هذه "النار الإلهية" ، أي من هذا القانون الكلي
الذي يسري في الطبيعة ويحكمها، فعليها إذن أن تعرف هذا القانون وتعمل بموجبه، ومن
هنا كان الدين الحق في نظر هيراقليطس هو مطابقة العقل الفردي عقل الإنسان الفرد
للقانون الكلي الساري في الكون، أي للعقل الكوني أو الكلي.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد