;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي >>الحلقة «4» 1470

2010-07-21 05:22:07

صفحة من
كتاب


وإذا كانت فكرة هيراقليطس في العقل
الكلي تميل إلى إقرار نوع من وحدة الوجود، باعتبار أن العقل الكوني هذا محايث
للطبيعة غير منفصل عنها فإن تصور آناكساجوراس ل"النوس" NOUS أي "العقل الكلي"
أيضاً، يختلف من حيث أنه جعل منه مبدأ مفارقاً، غير مندمج في الطبيعة ولا محايث
لها.

يرى آناكساجوراس أن الأجسام
مركبة من أجزاء متشابهة تقبل القسمة إلى غير نهاية من حيث المبدأ، ولكن مع افتراض
وجود أجزاء من غاية الصغر لا تنقسم، أشبه بالبذور الأولى، لا تدرك بالحواس وإنما
تتصور بالعقل فقط، ولقد كان الكون في أول أمره عبارة عن خليط فوضوي من هذا البذور،
عبارة عن "كاوس" Chaos أي عبارة عن عماء مطلق يشكل "الكل" الموجود وإذا كان كثير من
الفلاسفة السابقين قد قالوا بهذه الكفرة أ وبما يماثلها فإن ما يتميز به
آناكساجوراس، كما نوه بذلك كلٌ من أفلاطون وأرسطو، هو قوله :"إن العقل هو الذي نظم
كل شيئ وأنه العلة لجميع الأشياء".
ذلك لأنه كي يتمكن ذلك الخليط الأولى، أو
العماء الكلي، من الخروج من عطالته لا بد من قوة محركة تقوم بالفصل بين الأجزاء ثم
الوصل بينها وإعادة تركبيها، وهذه القوة المحركة سماها آناكساجوراس "النوس" أو
العقل "أو الروح".
لقد بدأت هذه القوة المحركة عملها بإحداث حركة دائرية محدودة،
أخذت بعد ذلك في التوسع ولا زالت تتوسع، فتشكلت بفعلها النجوم والكواكب والأثير،
وتمايز البخار والحار والبارد واليابس والرطب والمضيئ والمظلم والكثيف والخفيف، ومن
انضمام هذه الكيفيات بعضها إلى نشأة بعض الأجسام المادية، ومن ثم مختلف
الكائنات.
على أن هذا المبدأ المحرك الذي قام ب"الدفعة الأولى" الضرورية لمسلسل
النشوء والتطور لم يكن مجرد قوة محركة ، بل أنه "عقل" فهو يعرف ويعقل ذلك الخليط
العماء كما يعرف ويعقل ما تفرع عنه من كائنات وما أقام من نظام، يقول آناكساجوراس:
"والعقل يدرك جميع الأشياء التي امتزجت وانفصلت وانقسمت، والعقل هو الذي بث النظام
في جميع الأشياء التي امتزجت وانفصلت وانقسمت، والعقل هو الذي بث النظام في جميع
الأشياء التي وجدت والتي توجد الآن سوف توجد، وكذلك هذه الحركة التي تور بمقتضاها
الشمس والقمر والهواء والأثير المنفصلين عنها".
العقل يحكم العالم، تلك هي
العبارة التي تلخص فكرة آناكساجوراس ونظريته التي لا تترك أي مجال للصدقة، فكل شيئ
عنده نظام وضرورة، وإذا كان هناك ما يبدو وكأنه مجرد مصادفة، أي غير خاضع للحتمية
والضرورة، فليس ذلك راجعاًَ إلا إلى عجزنا عن اكتشاف سببه، هذا من جهة، ومن جهة
أخرى ف"النوس" ليس عقلاً يفكر وحسب، هكذا بعيداً عن العالم متعالياً، بل إنه أشبه
بالنفس: هو بالنسبة للعالم كالنفس بالنسبة للجسم، بل هو نفس كل ما له نفس، أو أن
نفوس الكائنات الحية قبس منه، ومع ذلك فهو غير محايث للطبيعة إذ يظل مستقلاً عنها
خارجاً عن دائرتها، إنه عبارة عن نفس مستقلة تصدر عنها نفوس مستقلة كذلك.
وإذا
كانت فكرة هيراقليطس عن "اللوغوس" هي التي تأسست عليها الفلسفة الرواقية، بل كل
الفلسفات التي تميل إلى نوع من وحدة الوجود، فإن فكرة آناكساجوراس عن "النوس" هي
التي كانت وراء الثورة السقراطية، أعني فلسفة سقراط التي تأسست عليها فلسفة كل من
أفلاطون وأرسطو، ومهما يكن من أمر الاختلاف بين تصور كل من هيراقليطس وآناكساجوراس
للعقل الكلي فإن القول بمحايثته للطبيعة أو انفصاله واستقلاله لا يغير من جوهر
التصور اليوناني للعلاقة بين الطبيعة وهذا العقل الكلي "الذي يتنزل منزلة الآله في
الديانات التوحيدية" وبينه وبين الإنسان، وهكذا نجد في جميع الأحوال، داخل الثقافة
اليونانية: الطبيعة أولاً بوصفها معطى ابتدائياً غير منظم ولا متميز، ثم تتدخل قوة
أخرى تسمى "العقل" تعمل على إشاعة النظام في الطبيعة، وبالتالي دفع عجلة التكون
والتطور.
أما الإنسان فهو في جوهره قبس من "العقل الكلي"، العقل النظام، وهو
يكتشف نفسه ككائن عاقل، في الطبيعة ومن خلالها، والفعل العقلي الجدير بهذا الاسم هو
إدراك النظام والترتيب بين الأشياء، وفي الفلسفة اليونانية، عموماً، ما يصدق على
جزء من أجزاء الكون يصدق على الكون بأسره، والعكس صحيح أيضاً، وهكذا فالطبيعة
بأسرها في نظر أرسطو، قمة الفلسفة اليونانية قابلة لأن يتعقلها العقل على الرغم
مما يكتنفها من فوضى ويرافق حوادثها من غموض، ذلك لأن العقل بمعنى النظام هو
أساسها، ولأن من ينظر إليها بعين العقل لا من غموض، ذلك لأن العقل بمعنى النظام
هو أساسها ، ولأن من ينظر إليها بعين العقل لا يرى فيها إلا العقل، ومن هنا كان
العقل في التصور اليوناني الأرسطي هو "إدراك الأسباب".
في هذا الاتجاه نفسه سارت
الفلسفة الحديثة في أوروبا.
يقول مالبرانش: "إن العقل الذي نهتدي به عقل كلي
". . . . " عقل دائم وضروري ". . . "، وإذا كان صحيحاً أن هذا العقل ضروري ودائم وثابت لا
يتغير فهو لا يختلف عن الله"، لقد بقي الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ثوراته على
"القديم" متمسكاً بفكر "العقل الكوني" متصوراً إياه على أنه " القانون المطلق للعقل
البشري"، وسواء نظر إلى هذا العقل على أنه قائم بذاته مستقل عن فكرة الله، أو نظر
إليه على أنه هو الله ذاته، فإن العلاقة بينه وبين نظام الطبيعة تبقى هي: إنها
المطابقة، أو على الأقل المساوقة، ولقد انعكس هذا التصور حتى على اللغة، واللغات
الأوروبية ذات الأصل اللاتيني خاصة، حيث نجد كلمة ratio "أو ما اشتق منها مثل كلمة
raison الفرنسية" تعني في آن واحد : العقل والسبب، يقول كرونو: أن كلمة raison " =
عقل، بالفرنسية" تدل: تارة على ملكة للكائن العاقل، وتارة على علاقة بين الأشياء
بعضها ببعض، بحيث يمكن القول أن عقل الإنسان "أو العقل الذاتي" يتتبع ويدرك عقل
الأشياء " أو العقل الموضوعي". .
وعلى الرغم من أن ديكارت قد فصل ما بين العقل
والطبيعة فصلاً حاسماً بإرجاعهما إلى طبيعتين مختلفتين: الفكر والامتداد، مكرساً
بذلك ثنائية حميمة على صعيد الوجود، فإنه سرعان ما اضطر إلى الجمع بينهما على صعيد
المعرفة، لأنه بدون ذلك يستحيل الخروج من الشك وتأسيس اليقين، لقد قال ديكارت بوجود
أفكار فطرية في العقل البشري "= المبادىء الرياضية خاصة " هي أساس المعرفة وأساس
اليقين، وقال بخضوع الطبيعة لقوانين صارمة تجعل سيرها مثل سير الآلة المحكمة الصنع،
وبما أنه جعل الفكرة والمادة جوهرين مختلفين تمام الاختلاف فلقد لجأ في الربط
بينهما، إلى الإرادة الإلهية: فقوانين الطبيعة مساوقة بل مطابقة لقوانين العقل لأن
الله جعلها كذلك، هكذا يعود ديكارت إلى تقرير المطابقة التامة بين قوانين العقل
وقوانين الطبيعة بشكل لا يختلف عما كان عليه الأمر عند فلاسفة اليونان إلا بإقحام
الوساطة الإلهية اقحاماً يراد به حل المشاكل المنطقية التي تطرحها ثنائية الفكر
والامتداد.
أراد سبينوزا أن يتجاوز بصورة حاسمة تلك المشاكل ذاتها، فقال أن خطأ
ديكارت كامن في القول بجوهرين اثنين، العقل والامتداد، هذا في حين أن الجوهر لا
يمكن أن يكون إلا واحداً،وبما أن هذا الجوهر الوحيد علة لذاته ومتصور بذاته وذلك
بالتعريف فإن كل ما سواه هو : أما صفة له "كالفكر والامتداد" وأما حال يتجلي فيها
"كالحركة والجسمية"، من هنا كان هو "الطبيعة المطبوعة" من حيث هو هذه الصفات
والأحوال نفسها، فالعقل والطبيعة " أعني نظامها وقوانينها" مظهران لحقيقة واحدة،
وإنما يخطئ الفكر البشري في أحكامه بسبب عدم إدراكه إدراكاً تاماً للضرورة الكلية
التي تحكم جميع الأشياء والظواهر، حيث لا صدفة ولا إمكان بل قانون كلي شامل هو ذاته
"العقل الكوني" المحايث للطبيعة، المنظم لها، المتحكم في صيرورتها.
لم تكن هذه
الرؤية التأملية التي صدر عنها سبينوزا لتنسجم مع الروح العلمية التجريبية التي
أخذت تسود أوروبا في عصره، بل منذ جاليو وبيكون، إن موقف سبينوزا يعزز مبدأ الحتمية
الذي يقوم عليه الفكر العلمي ولكنه منجهة أخرى موقف لا يمكن للعلم أن يتبناه لأنه
لا يستطيع أن يتحقق منه، لقد كان لا بد إذن من إعادة تأسيس العقلانية الحديثة، التي
أرسى دعائمها ديكارت وبلغت أوجها مع سبينوزا، بشكل يجعلها تستجيب ليس فقط للروح
العلمية ولمقتضيات التجربة، بل بصورة تجلها تفلت من خطر الشك الذي زرعه فيها هيوم
حينما طرح مشكلة السببية، مشكلة العقل ذاته، لقد ظهرت الحاجة إذن ليس فقط إلى تأكيد
التطابق بين العقل ونظام الطبيعة بل أيضاً إلى المصالحة بين الحقيقة العلمية
والحقيقة الفلسفية انقاذاً لوحدة الحقيقة ووحدة العقل معاً.
تلك كانت المهمة
التي أراد كانط أن يضطلع بها من خلال سعيه إلى إعادة بناء العلاقة بين العقل ونظام
الطبيعة على أساس معطيات العلم في عصره، العلم الرياضي والطبيعي.
لقد عاد كانط
إلى ما يشبه الموقف الديكارتي ففصل بين العقل ونظام الطبيعة ليعود فيربط بينهما
برباطات جديدة كانت تبدو أقوى وأمتن، خصوصاً وقد جعلها لا تستمد قوتها ومشروعيتها
من أية قوة عليا تقف خارج العقل والطبيعة: ذلك لأنه بما أن الرياضيات كانت قد برهنت
بالفعل في عصره على أنها الحروف الأبجدية التي يقرأ بها كتاب الطبيعة كما كان قد
بشر بذلك جاليلو من قبل وبما أن الفيزياء كانت قد برهنت من جهتها، وبكيفية عملية،
على أنها لا يمكن أن تحيا، بل أن تنمو وتتطور، بدون الرياضيات، فلقد أرتأى كانط أن
التطابق بين العقل ونظام الطبيعة " = اليقين" يجب أن يمر عبر تلك الوحدة الصميمة
بين الرياضيات والفيزياء ومن هنا تساءل: علام تقوم هذه الوحدة، وبعبارة أخرى: علام
يقوم اليقين العلمي؟ عاد كانط إذن إلى ما يشبه الموقف الديكارتي، فجعل العقل البشري
المنظم للتجربة و"المشروع" للطبيعة، ولكن ليس بما فيه من "مبادئ فطرية"، كما قال
ديكارت من قبل، بل بوصفة هو نفسه جملة من القوالب القبلية "صورتا الزمان والمكان،
والمقولات" التي هي عبارة عن قوالب فارغة تملأها الحدوس الحسية فتتحول إلى معرفة،
هذه الحدوس التي تظل عمياء بدون تلك القوالب، حسب تعبيره.
وإذن فالمعرفة
اليقينية، وبالتالي التطابق بين العقل ونظام الطبيعة، تتوقف على ما تعطيه التجربة
للعقل وما يمد به العقل معطيات التجربة.
إن العقل والتجربة كلاهما شاهد على
الآخر: فإذا كان العقل هو المشرع فإن التجربة هي المختبر، إنها هي التي ترسم حدود
المعرفة الصحيحة، ذلك لأنه لما كانت التجربة محدودة بحدود ما تمدنا به حواسنا،
وبالتالي فلا تستطيع أن تتجاوز مستوى الظواهر، فإن المعرفة العقلية اليقينية لا
يمكن أن تتعدى عالم الظواهر، أما ما وراء الظواهر، أو ما يسميه كانط ب"الشئ في
ذاته" فذلك ما لا يحق للعقل أن يدعى الوصول إليه والتعبير عن
حقيقته.


الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد