;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «5» 1812

2010-07-22 03:00:13

صفحة من
كتاب


لم تكن هذه النتيجة التي انتهى
إليها كانط لترضي الفلسفة، ولو أنها أرضت العلم إلى حين، هاجم هيجل فلسفة كانط
النقدية لكونها فصلت بين "الظاهر" و"الشيء في ذاته"، بين الأشياء كما نتعرف عليها
بواسطة إحساساتنا، والأشياء كما هي في ذاتها، فجعلت العالم من نتاج الذات وطوقته
بحدودها.

إن هيجل يرى أن الأشياء
التي نعرفها معرفة عقلية ليس الظواهر وحسب ، وإنما هي كذلك الشيء في ذاته، وبعبارة
أخرى ليس هناك "ظاهر الشيء" والشيء في ذاته ، بل هناك وحدة صميمة بينهما، فالشيء هو
هذا وذاك معاً ، وهو قابل لأن يدرك بالعقل، هكذا في كليته.
أنطلق هيجل، إذن ، من
مبدأ أساسي هو: "كل ما هو واقعي فهو عقلي وكل ما هو عقلي فهو واقعي"، وهذا معناه أن
ليس هناك في الوجود شيء لا يقبل التفسير بالعقل، وإن كل ما يقبل التبرير العقلي فهو
موجود ضرورة، ذلك لأن وجود الشيء معناه صدوره عن سبب فاعل وسبب غائي، وتعقل الشيء
معناه إدراك سببه الفاعل وسببه الغائي.
هذا من حيث المبدأ ، أي من حيث المنطق
وحده، يبقى بعد ذلك نقل هذا المبدأ من المستوى المنطقي إلى المستوى الواقعي حتى
يمكن إقامة الدليل فعلاً على تطابق العقل مع نظام الطبيعة، أي على قابلية كل شيء في
الكون للتبرير العقلي، هنا تتدخل مسلمة ثانية وضعها هيجل، مقدماً لها على أنها
نتيجة التحليل، مسلمة تقول بأن الحركة في الكون وصيرورته خاضعة لقانون حتمي يتجه
بها إلى أعلى مراتب التقدم، إلى قمة التطور، إلى تحقيق المطلق، أي تحقيق العقل
الكلي "أو الفكرة أو الله" في العالم وتحقيق العالم في العقل.
لقد نظر كانط إلى
قضية المعرفة، إلى العلاقة بين العقل والطبيعة، نظرة جامدة فوقف عند مستوى الخبرة،
أي مستوى الظواهر كما تبدو ممتدة ساكنة، أما هيجل فقد نظر إلى نفس المسألة نظرة
دينامية، نظرة تاريخية، ف"الشيء في ذاته" ، ليس يعطيه الحس، لأنه ليس من عالمه بل
يعطيه العقل والتاريخ، من هنا ستصبح المطابقة قائمة ليس فقط بين العقل والطبيعة بل
أيضاً بين العقل والتاريخ، بل إن الطبيعة نفسها ستغدو مجرد مظهر من مظاهر تطور
العقل عبر التاريخ، لقد بلغ هيجل بالعقلانية الغربية أعلى قممها، لقد أحل العقل محل
التاريخ وأحل التاريخ محل العقل بأن "أعطى للتاريخ معنى وللعقل حركة"، فأصبح
التطابق بين العقل ونظام الطبيعة لا مجرد مسألة منطقية، كما كان الشأن من قبل بل
أصبح مسألة صيرورة ومصير، مسألة "واقع" يتحقق عبر التاريخ.
قد يبدو من هذا العرض
السريع الذي رسمنا من خلاله الإطار العام لفلسفة كل من كانط وهيجل أن الأول منهما
كان أقرب إلى العلم من الثاني، وبالتالي أقرب إلى الحقيقة الموضوعية، هذا صحيح ولكن
من حيث المظاهر فقط: إن العالم كما كان في عهد كانط، بل كما كان يعرفه كانط، يعطي
له الحق على هيجل، ولكن العلم كما س"يصير"، أي كما سيعرفه التاريخ من بعد كانط
مباشرة ، كان يؤيد موقف هيجل.
إن كثيراً من الأشياء التي كانت تدخل في عهد كانط
في إطار ما أسماه ب"الشيء في ذاته" قد أصبحت الآن ومنذ زمن طويل من قبيل
"الظواهر"، لقد قيد كانط نفسه بعلم عصره فاستلهم منه إطار فلسفته، وأسس على فروضه
مسبقاته وقبلياته، ولكن العلم سرعان ما عمل على تمزيق ذلك الإطار ونسف تلك
المسبقات، لقد شيد كانط صرح فلسفته على مسلمات فيزياء نيوتن، فاعتبر الزمان والمكان
إطارين مستقلين عن التجربة وظروف المجرب. .
وستأتي نظرية النسبية، مع مطلع هذا
القرن، لتقول بنسبية الزمان والمكان وتعلقهما بالمنظومة المرجعية للملاحظ، كما
ستأتي نظرية الكم "الكوانتا" لتجعل الاحتمال يحل محل الحتمية.
لقد تغيرت جذرياً،
مع الفيزياء والذرية مفاهيم العقل ومبادئه، تلك المفاهيم والمبادئ التي كان ينظم
بها التجربة "مثل مفهوم الحتمية ومفهوم الزمان ومفهوم المكان "فصار لزاماً عليه أن
يغير فهمه لنفسه، وهل العقل شيء آخر غير مفاهيمه وأدوات عمله؟.
لن يكون بإمكاننا
هنا إعطاء صورة ولو مجملة عن الثورة الايبيستيمولوجية "الثورة في نظرية المعرفة
وبالتالي في نظرية العقل" التي انطلقت مع نظرية النسبية ونظرية الكم، فلقد كانت ولا
زالت ثورة استهدفت مراجعة كل شيء في مجال المعرفة مراجعة شاملة، حسبنا إذن أن نشير
إلى الجوانب التالية التي تهم موضوعنا بكيفية مباشرة.
لعل أولى النتائج التي
فرضتها الثورة العلمية الجديدة التي انطلقت مع بداية هذا القرن هي ضرورة إعادة
النظر في مفهوم "العقل" ذاته، لقد كان الفلاسفة من قبل ينظرون إلى العقل كمحتوى
"قوانين العقل عند أرسطو، الأفكار الفطرية عند ديكارت، صورتها الزمان والمكان
والمقولات عند كانط"، أما الآن فلقد أدى تطور العلم وتقدمه إلى قيام نظرية جديدة في
العقل قوامها النظر إليه بوصفه أداة أو فاعليه ليس غير.
لم يعد العقل في التصور
العلمي المعاصر مجموعة من المبادئ، بل إنه "القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادئ"
، إنه أساس ، نشاط منظم، ولنقل "لعب حسب قواعد".
فما مصدر هذه القواعد؟ إن العلم
لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، ومن دون شك فإن قواعد العقل إنما تجد
مصدرها الأول في الحياة الاجتماعية التي تشكل أول أنواع الواقع الحي الذي يحتك به
الإنسان، بل ويعيش في كنفه، والحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا بقواعد للتعامل،
والإنسان لا يحيا حياة اجتماعية وهو حيوان اجتماعي بالطبع كما قال أرسطو إلا
بخضوعه لتلك القواعد، وبما أن الحياة الاجتماعية ليست واحدة، ولا على نمط واحد، فمن
المنتظر أن تتعدد أنواع القواعد العقلية ولنقل أنواع المنطق بتعدد وتباين أنماط
الحياة الاجتماعية.
من هنا كان للشعوب المسماة "بدائية" منطقها، وكان للشعوب
"الزراعية "منطقها ، وكان للشعوب "التجارية الصناعية" منطقها، ومن هنا أيضاً ،
ولنفس السبب كان لكل مرحلة تاريخية منطقها.
وإذا نحن أردنا تجاوز هذا التخصيص
الارتباط بالحياة الاجتماعية صار لزاماً علينا أن ننظر إلى العقل على أنه جملة
قواعد مستخلصة من موضوع ما، أي من الموضوع الذي يتعامل معه الإنسان، لقد تعامل
اليونان مع الكون، مع الطبيعة ككل يريدون تفسيرها وفهم ظواهرها، فأسقطوا عليها نفس
القواعد التي استخلصوها من حياتهم الاجتماعية، أي من تعاملهم الاجتماعي فنسبوا
إليها الحياة والنظام، وملأوها بالآلهة التي تقتسم بينها مملكة الطبيعة مثلما يقتسم
الحكام المحليون السلطة على المدينة أو على القطر ، لا بل كما يقتسم شيوخ القبيلة
السلطة في المجتمع القبلي، ذلك هو أساس التفسير الميثلوجي "الأسطوري"
للكون.
وعندما دشن طاليس النظر العقلي محاولاً تفسير الطبيعة بالطبيعة نفسها،
فقال إن أصل الكون ماء ، بدأ "اللوغوس" "= العقل" يحل محل "الميتوس" "= الأسطورة" ،
أي بدأ الفكر يستقي مرتكزاته من الطبيعة نفسها لا من أي شيء آخر خارجها، وتلك لحظة
بلغت مرحلة الوعي بالذات مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، حيث استخلص هذا الأخير "مبادئ
العقل" ، وبالتالي صاغ منطقه المنطق الأرسطي من اعتبار الخصائص المشاهدة في
الأجسام الصلبة كالحضور والغياب "مبدأ الهوية" والترابط والجوار "مبدأ
السببية". . إلخ.
ومن هنا كان المنطق الأرسطي ، كما يقول كونزيت، عبارة عن فيزياء
اتخذت موضوعاً لها الجسم الصلب، ومن هنا أيضاً استجابته لمتطلبات الفيزياء
الكلاسيكية التي كان موضوعها هي الأخرى: الجسم الصلب، وعندما اخترقت الفيزياء
الحديثة جدار "الجسم الصلب" هذا ودخلت عالم الذرة، تغير الأمر تماماً.
لقد عجز
المنطق الأرسطي عن التعبير عن صفات وخصائص الجسيمات الذرية وأصبح عالم الذرة يفرض
على العقل البشري العقل العلمي قواعد جديدة، أي منطقاً جديداً، لقد ظهر نوع
جديد من الحضور والغياب "مسألة الطبيعة المزدوجة ، الجسيمية والموجية، للكائن
الذري" ونمط جديد من الترابط "مبدأ اللاحتمية الذي قال به هايزنبرغ" واندمج الزمان
في المكان وتداخل الموقع مع السرعة. . إلخ، وقائع جديدة أصبحت تفرض نوعاً جديداً من
التعامل، أي عقلاً جديداً.
هكذا نخلص إلى النتيجة التالية: أن العقل هو في نهاية
التحليل جملة من القواعد مستخلصة من موضوع ما " ، أما المنطق فإنه سيصبح هو الآخر
كما قال كونزيت، عبارة عن "فيزياء موضوع ما"، ومن هنا ضرورة الاعتراف بتعدد أنواع
المنطق تبعاً لتعدد منظمات القواعد التي تؤسس النشاط العلمي في هذا المجال أو
ذاك.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد