;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «14» 1446

2010-08-03 04:57:56

صفحه من
كتاب


إننا لا نريد أن نطرح هنا مجدداً
تلك القضية التي أثارها طه حسين من قبل، قضية صحة او عدم صحة الأدب الجاهلي،
وبالتالي الموروث الثقافي الذي ينسب إلى عرب ما قبل الإسلام، إن الشك في مثل هذه
الأمور يجب أن يكون في حدود وإلا فقد كل مبرر منهجي.

ذلك لأنه بإمكان "الوضاع" أن يضعوا فعلاً
بعض الأشعار وينسبوها إلى من تقدمهم، ولكن من المستبعد تماماً أن يتناول الوضع
شخصيات الماضي وما ينسب إليها، في آن واحد.

وبعبارة أخرى: لكن تنسب إشعار
إلى شعراء جاهليين يجب أن يكون هناك بالفعل ليس فقط "شعراء جاهليين"، بل أيضاً شعر
جاهلي ينسج على منواله، فالتزوير من غير نموذج سابق غير ممكن، وإما أن يكون الأدب
الجاهلي قد تعرض للوضع والبتر والإبراز والإهمال. .
إلخ فهذا ما لا شك، وهذا ما
لا يعنينا كثيراً في موضوعنا، إننا لن نناقش هنا معطيات العصر الجاهلي، بل نريد
جلاء الصورة العامة التي لدينا عنه، الصورة التي تقدمها لنا عنه كتب التراث بمختلف
أنواعها.
والواقع أن كتب التراث، وكذلك الدراسات "الحديثة"، تقدم لنا عن العصر
الجاهلي هذا صورتين، وليس صورة واحدة.
هناك من جهة الصورة التي تبدو وكأن كل
وضيفتها تبرير وصف ذلك العصر ب"الجاهلي"، و"الجاهلية" مصطلح إسلامي يقصد به ليس
فقط الجهل، بمعنى عدم العلم وانتفاء المعرفة، بل أيضاً، ولربما كان هذه هو المقصود،
ما يرافق الجهل وينتج عنه، أعنى الفوضى وانعدام الوازع الجماعي سياسياً كان
"الدولة" أو خلقياً "الدين".
من هنا تشبيه الجاهلية بالظلمة والإسلام بالنور،
فالظلمة أو الظلمات تعني هنا الفوضى والتطاحن وغياب أفق مستقبلي، كما تعنى الجهل
وعدم تقدير المسؤولية، في حين أن النور يعني الوضوح في العلاقات
والمسؤوليات. . وأيضاً وضوح الآفاق.
هذا فضلاً عن حلول النظام محل الفوضى والتضامن
محل التطاحن. .
فهل حقق الإسلام بالفعل هذا التحول الجذري في حياة عرب الجاهلية؟
لا أحد يشك في أن وضعية العرب بعد الإسلام هي غير وضعيته قبله، وهل هناك من تحول
أعمق وأشمل من الانتقال من مجتمع قبلي منغلق، مجتمع بدون دولة وبدون قانون، إلى
مجتمع منظم عالمي متفتح تقوده دولة تتوافر لديها كل مقومات الدولة ومن جملتها
القانون المسطور؟ ومع هذا كله فلا شيئ يمنعنا من طرح هذا السؤال المنهجي الذي يخص
ميدان بحثا: هل حقق الإسلام بالفعل قطعية معرفية مع العصر الجاهلي؟ إن أهمية هذا
السؤال بالنسبة لموضوعنا ترجع ، لا إلى مضمونه، بل إلى وظيفته.
وسنرى فيما بعد
أنه من هذه الزاوية سؤال مبرر تماماًَ.
وهناك من جهة أخرى وفي أذهاننا
دائماً صورة عن العصر الجاهلي غير تلك التي أبرزنا بعض معالمها، صورة قوامها حياة
فكرية نشطة، وأسواق للفكر والثقافة وقدرة على الجدال والنقاش والمحاجة، تتجلى خاصة
فيما أسماه الشيخ مصطفى عبدالزراق ب"الجدل الديني" والذي كان بالفعل نوعاً من
"الكلام" قبل أن يقوم "علم الكلام" في الثقافة العربي الإسلامية. ليس هذا وحسب، بل
إن القرآن، وهذا ما يجمع عليه المسلمون منذ القديم إلى اليوم، لم يكن ليخاطب العرب
تلك الصور البيانية الساحرة والمعاني السامية والحجج "العقلية" الكثير لو لم يكونوا
ي المستوى الذي يجعلهم قادرين على التعامل معها فهما واستيعاباً.
وأكثر من هذا
وذاك أن المرء لا يسعه إلا أن يلاحظ أنه لو لم يكن العرب ذوي ثقافة في مستوى متقدم
لما جادلوا القرآن ولما قالوا عنه إن هو إلا "سحر يؤثر" من جنس سحر الشعر وسجع
الكهان. .
إلى غير ذلك من الاعتراضات التي سجلها القرآن ورد عليها.
نحن إذن
أمام صورتين مختلفين عن العصر الجاهلي تقدمها لنا كتب التراث مستندة في الغالب إلى
إشارات وردت في القرآن بصيغة أو بأخرى. .
وبالرغم من أنه يمكن قبول الصورتين
معاً، وفي آن واحد باعتبار أن إحداهما تعكس حياة الأعراب الأخرى حياة الخضر، أو
أنهما تمثلان مظهرين من مظاهر ذلك العصر ككل، فإنه من الضروري الانتباه مع ذلك إلى
أن صورة العصر الجاهلي في الوعي العربي لم تكن دوماً وليدة المعطيات التاريخية
وحدها، ولا نظن أنها كذلك اليوم، بل كانت ، وما تزال، خاضعة لمتطلبات تنتمي إلى
"الحاضر"، حاضرنا نحن أو حاضر من كانوا قبلنا، وإذا شئنا الدقة قلنا أنها خاضعة
لمتطلبات "الحاضرين" معاً، باعتبار أنها صورة ينقلها خلف عن سلف لكل منها ما
"يريده" من العصر الجاهلي. .
ومن المؤكد أن المراد لم يكن واحداً.
لنتساءل إذن
كيف ومتى بدأ وعي العرب ينتج صورة، أو صوراً، لما نسميه : العصر الجاهلي؟ لا حاجة
بنا هنا إلى إثقال القارئ بالمعلومات "التاريخية" المتداولة الآن وقبل الآن بكثرة،
فلقد كان الإسلام، وبالخصوص بعد الهجرة، يعبر فعلاً عن تجاوز وضعية لم تعد قائمة،
لا لأنها كانت قد تقادم العهد بها بل لأنها كانت غير مرغوب فيها ولا في استرجاع
ذكرياتها.
إن الفتوحات العظيمة التي حققها عرب الجزيرة في عه الخلفاء الأربعة
جعلهم يشعرون ويتأكدون يوماً بعد يوم، أنهم خرجوا بالفعل من "الظلمات إلى النور"،
في كل مجال وعلى جميع المستويات، وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا أن العرب كانوا في
عهد أبي بكرة وعمر على الأقل، يحاربون صورة الماضي الجاهلي في وعيهم بكل عنف
وبمختلف آليات الكيت المعروفة، إن ما قبل الإسلام، بالنسبة إليهم كان يمثل "ما قبل
التاريخ". .
تاريخهم.
وليس من المصادفة في شيئ أن يختار عمر بن الخطاب يوم
هجرة الرسول إلى المدينة ليجعله بداية التاريخ العربي، بل لكل "تاريخ".
غير أن
هذا الرفض الشامل للعصر الجاهلي لم يكن ليستمر طويلاً: إن المتطلبات الإدارية
للدولة الجديدة، والنظام الذي اتبع في توزيع الغنائم وما نتج عن ذلك أو رافقه من
الحاجة إلى "ضبط" الأنساب، ثم إن ما حدث من تطورات في آخر خلافة عثمان وأثناء خلافة
علي ومعاوية. .
كل ذلك جعل العرب يغيرون موقفهم من ماضيهم، من "ما قبل تاريخهم"،
فبدأت عملية إحياء الماضي، ووجدت "الحمية الجاهلية" المكبوتة متنفساً لها واسترجعت
كامل حريتها والنتيجة: إعادة بناء "الماضي الجاهلي" بالشكل الذي يستجيب لمتطلبات
"الحاضر الإسلامي".
وما دام الطريق إلى الماضي هو الذاكرة فلاشيئ يمنعها أي
الذاكرة من أن تنتقي وتختزل وتستعين بالخيال، خصوصاً والحياة في الماضي الجاهلي
كانت منغلقة على نفسها الشيئ الذي يعني أنه لا يمكن الطعن فيما يروى عنها إلا
بواسطة حياة مثلها: إن العصبية القبلية التي ظهرت للوجود، لربما بأقوى مما كانت
تعبر عن حاجات الحاضر.
ليس هذا وحسب، بل إن التطور الذي حصل على مستوى العنصر
العربي يشمل العناصر الأخرى داخل المجتمع الإسلامي الكبير المتنامي، لقد كان ينظر
إلى الدولة الأموية في بدء نشأتها على أنها دولة قبيلة استبدت على قبائل أخرى،
فكانت المعارضة ، في أول الأمر، داخل التحالف العربي لا خارجه، ولكن عندما انبعث
العصبية داخل هذا التحالف أصبحت المعارضة تبحث عن بناء لها خارج العب، فوجدت
المعارضة الصامتة، معارضة الموالي الذي كانوا على هامش الدائرة العربية، وحدت
متنفساً بل مجالاً للحركة، من هنا أخذت تتبلور فكرة "الدولة الإسلامية" فكرة تريد
من الدولة أن تكون دولة جميع المسلمين لا دولة العرب وحدهم، فبالأحرى جماعة منهم،
ولما كان غير العرب يشكلون الأكثرية في المجتمع الإسلامي الجديد وينتمون إلى شعوب
مختلفة فلقد اتخذت المعارضة شكل "شعوبية" أي حرة شعوب إسلامية غير عربية، تطالب،إن
لم يكن بديمقراطية الأغلبية فعلى الأقل ب"المساواة".
ومن الجدير بالاعتبار أن
الشعوبيين كان يطلق عليهم في أول الأمر اسم "أهل التسوية" أي المطالبون
بالمساواة.
وكما هو معروف فلقد ركبت الشيعة هذه الحركة، أو على الأقل استظلت هذه
الحركة براية التشيع وتحولت إلى حركة سياسية دينية تزداد اتساعاً وتجذر اًن الشيئ
الذي مكنها من القيام بالدور الحاسم في الإطاحة بالدولة الأموية وتأسيس الدولة
العباسية، وبما أن الدولة الجديدة قد تسلم القيادة فيها العنصر العربي مرة أخرى
وهل كان يمكن أن يحصل غير ذلك في تلك الفترة وبما أن المعارضة السياسية والعسكرية
قد استنفذت قواها حين الثورة على الأمويين ثم صفي ما تبقى منها في أوائل الدولة
العباسية فإن الحركة الشعوبية ستكتسي شكل صراع ثقافي يحاول إخفاء مضمونه السياسي
والطبقي في نفس القوالب التي صب فيها مضمون الصراع الذي نشب داخل العنصر العربي عند
قيام الدولة الأموية، وهكذا، فبدلاً من "الكلام" في قضايا الحاضر وتوظيفها في
السباق نحو المستقبل اتجهت الحركة الشعوبية إلى مهاجمة الماضي العربي هو الدفاع: إن
الدفاع من الماضي العربي، وعن العصر الجاهلي بالذات، أصبح يكتسي الآن شكل الدفاع عن
الهوية القومية ، لا بل الدفاع عن الوجود وأسباب الوجود.
هكذا أصبحت عملية إعادة
بناء الماضي العربي، وبالضبط العصر الجاهلي، ضرورة ملحة، بل قضية مصير، كيف لا
والماضي لا يهاجم من أجل ذاته بل من أجل الحاضر والمستقبل، لقد أدرك الخلفاء من
العباسيين هذه الحقيقة وعملوا على ضوئها وبوحي منها: إنه البناء الثقافي الشامل
الذي أصبح يطرح نفسه كضرورة تاريخية.
لم تكن عملية إعادة بناء الماضي العربي
الجاهلي منه والإسلامي من نصع الأفراد وحدهم، بل كانت أساساً من المهام التي قامت
بها الدولة، لقد كانت عملية سياسية في جوهرها: لم تكن مجالس المناظرات والمسامرات
سواء في قصور الخلفاء والأمراء أو في الدور الخاصة والمساجد، مجالس من أجل الترفيه
و"الإمتاع" و"المؤانسة"، إنها وإن كانت كذلك في الظاهر، فلقد كانت واقع الأمر إعادة
متواصلة ومتكررة ل"كتابة" التاريخ، وبكيفية خاصة "تاريخ" العصر الجاهلي وصدر
الإسلام.
إنه التاريخ القومي الذي كانت تلقتط عناصره من ذاكرة الآباء وخيال
الأبناء، ونحن لا نرى بدعة في ذلك، فالشعوب تبني، عادة، تاريخها القومي تحت ضغط
الحاجة ومتطلبات الظروف.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد