كتاب
الوعي العربي، اليوم وقبل اليوم، عن العصر الجاهلي لا تعكسان حقيقة هذا العصر وحده
بل تعكسان، ولربما بدرجة أقوى، الظروف التي تم فيها رسم معالم الصورتين، وهي ظروف
الدولة الإسلامية في عصر التدوين، ذلك لأن ما نعرفه وما عرفه أجدادنا عن الجاهلية
وصدر الإسلام إنما يرجع الفضل فيه إلى تلك العملية الشاملة، عملية البناء الثقافي
التي تمت خلال عصر التدوين.
على
أن ما يهمنا من هذه هذا العرض السريع للظروف التي تم فيها بناء العصر الجاهلي على
صعيد الوعي العربي، ليس الصورة أو الصور التي تقدمها لنا عملية البناء تلك، بل إنما
ما يهمنا أكثر هو عملية البناء ذاتها، تلك العملية التي لا سبيل إلى الشك فيها كحدث
تاريخي.
وإذا شئنا الدقة أكثر قلنا إن ما يهمنا في عملية البناء تلك، ليس مواد
البناء، أعني المعطيات التاريخية، بل طريقة البناء وفعل البناء نفسه.
ذلك لأنه
سواء تعلق الأمر بالمفاخرات بين القبائل في عصر الأمويين أو برد هجمات الشعوبية في
عصر العباسيين، أو بالمناظرات العلمية أو المسامرات الترفيهية أو بالكتابات
التاريخية الصحيحة منها وغير الصحيحة التي عرفها العصران معاً، فإن الذي كان يشيد
في الحقيقة هو العقل العربي، وليس العصر الجاهلي أو الماضي العربي.
وهذا راجع
ليس فقط إلى أن عملية البناء قد اتجهت أساساً إلى الجانب الثقافي "اللغة، الشعر. . "
بل أيضاً لأنه في عملية البناء هذه بدأت تترسخ في الذهن العربي طرق في ا لعمل
والإنتاج وأساليب في الإقناع ومقاييس للقبول والرفض.
إنه الخطاب العربي الذي كان
آخذاً في التشكل، الخطاب في معناه الاصطلاحي الفلسفي المعاصر الذي عين الكلام
المنظم عن أشياء وبالسكوت عن أشياء وإبراز أشياء، وبعبارة أخرى: الإستدلال على
أشياء بأشياء مع إغفال كثير من الأشياء.
لقد تشكلت بنية العقل العربي، إذن، في
ترابط مع العصر الجاهلي فعلاً، ولكن لا العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة
المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد هذه البعثة: العصر
الجاهلي بوصفه زمناً ثقافياً تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين الذي
يفرض نفسه تاريخياً كإطار مرجعي لما قبله وما بعده.
فإلى هذا الإطار المرجعي يجب
أن نتجه الآن باهتمامنا.
2 عندما يكون رجل الفضاء سابحاً في الأجواء العليا
فإن سفينته تشكل بالنسبة إليه ما ندعوه بالإطار المرجعي أو المنظومة المرجعية
التي يراقب الأشياء من خلاله وبواسطته.
فالكواكب والنجوم والسفن الفضائية الأخرى
تكون بالنسبة إليه قريبة أو بعيدة، "تحته" أو "فوقه" ، أسرع أو أبطأ بالنسبة إلى
موقع سفينته وسرعتها.
وبعبارة أعم فأشياء العالم كله إنما تتحدد بالنسبة إليه
بخيوط وهمية تربطها إلى سفينته، تماماً مثلما يتحدد موقع المصباح المدلى وسط غرفة
بخيوط وهمية تمتد إلى الجدار الذي يمثل طول الغرفة والجدار الذي يمثل عرضها والسقف
الذي تمثل المسافة الفاصلة بينه وبين أرض الغرفة والجدار الذي يمثل عرضها والسقف
الذي تمثل المسافة الفاصلة بينه وبين أرض الغرفة: الارتفاع أو البعد
الثالث.
والواقع أن البشر كلهم مثل رجل الفضاء هذا ، فلكل منا إطاره المرجعي
الذي يحدد بواسطته علاقته مع العالم.
فنحن لا نعرف شيئاً ولا نتعرف عليه إلا من
خلال ما نربطه به نوعاً من الربط.
والعقل البشري هو ، كما أشرنا إلى ذلك في
الفصل الأول، جملة من العناصر "مفاهيم وتصورات وإجراءات" تشكل المستندات التي تحدد
علاقتنا بالأشياء: فهمنا لها، رد فعلنا إزاءها، موضعتنا لها. . إلخ.
وإذا كان
البشر يتفاهمون ويتواصلون فلأنهم يعيشون حياة متشابهة، في الطبيعة والمجتمع، تمدهم
بمرتكزات ومقاييس موحدة نوعاً ما، أي بإطار مرجعي واحد.
غير أن تجارب الشعوب
وظروف معيشتها ليست واحدة، مما ينشأ عنه اختلاف الثقافات وبالتالي اختلاف المنظومات
المرجعية التي تعتمدها هذه الشعوب.
ذلك لأن الثقافة بمثابة الوعاء الذي يحوي
العناصر المكونة للمنظومة المرجعية لمن ينتمون إليها، تماماً مثلما تضم سفينة
الفضاء نقط الاستناد التي يقيس المراقب الأشياء بالنسبة إليها.
وكما أن رجل
الفضاء يستند في قياساته، سواء كان يقيس أشياء العالم التي تقع خارج السفينة أو
الأشياء الموجودة داخلها، على نفس نقط الاسناد، أو لنفرض أنه يفعل ذلك، فكذلك الحال
بالنسبة لكل من يعيش داخل ثقافة ما ، وهل هناك من البشر من ليس كذلك.
وإذن يمكن
النظر إلى الثقافة، أية ثقافة، ككيان مستقل تنظمه، وتنظم العالم من حوله وبالقياس
إليه، منظومة مرجعية خاصة بها، أي جملة من المفاهيم والأدوات الفكرية والرؤى
الاستشرافية والقيم الجمالية والأخلاقية. .
تشكلت خلال فترة أو فترات أو هي
تتشكل باستمرار من تاريخ تلك الثقافة ، مفاهيم وآليات ورؤى وقيم تشد إليها بخيوط
من حديد عالم هذه الثقافة أولاً ، والعالم أو العوالم التي تقع حولها ثانياً،
وحينئذ يصبح "تاريخ" هذه الثقافة أو زمنها مرهونا بتلك الخيوط.
فما دامت الخيوط
هي هي ، لم تتغير جذرياً في تركيبها وطريقة عملها، فالزمن زمن الثقافة المعنية يبقى
ممتداً، يتحرك في سكون وكأن الأمر يتعلق ببساط يمسك، بواسطة الخيوط التي تؤلفه،
جميع الأشياء الموضوعة فوق ليشدها إلى حفاته، أي إلى الطرف الذي انطلقت منه عملية
النسج يوم بدئ في نسجه.
وعصر التدوين بالنسبة للثقافة العربية هو بمثابة هذه
"الحافة" الأساس.
أنه الإطار المرجعي الذي يشد إليه، وبخيوط من حديد، جميع
فروع هذه الثقافة وينظم مختلفة نموذجاتها اللاحقة. .
إلى يومنا هذا.
ليس هذا
وحسب ، بل إن عصر التدوين هذا، كما بينا ذلك في الفقرة السابقة، هو في ذات الوقت
الإطار المرجعي الذي يتحدد به ما قبله "على مستوى الوعي العربي بطبيعة
الحال".
فصورة العصر الجاهلي وصورة صدر الإسلام والقسم الأعظم من العصر الأموي
إنما نسجتها خيوط منبعثة من عصر التدوين، هي نفسها الخيوط التي نسجت صور ما بعد عصر
التدوين.
وليس العقل العربي في واقع الأمر شيئاً آخر غير هذه الخيوط بالذات،
التي امتدت إلى ما قبل فصنعت صورته في الوعي العربي، وامتدت وتمتد إلى ما بعد لتصنع
الواقع الفكري الثقافي العام في الثقافة العربية العامة، والتالي مظهراً أساسياً من
مظاهرها.
لنفحص، إذن، ملابسات هذا العصر ومنجزاته.
"قال الذهبي: في سنة ثلاث
وأربعين "ومائة" شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه
والتفسير.
فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدين، والأوزاعي بالشام، وابن
أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري
بالكوفة.
وصفن أبن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي.
ثم
بعد زمن يسير صنف هشيم والليث وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو سيف وابن وهيب. \وكثر
تدوين العمل وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس.
وقبل هذا
العصر كان الناس يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة".
نحن
أمام نص بالغ الأهمية بالنسبة لموضوعنا، ويهمنا في المرحلة الراهنة من بحثنا أن
نبرز، من خلاله، المعطيات التالية: لقد حدد النص سنة 143 ه كتاريخ لبداية
التدوين في الإسلام ، وهذا التاريخ يمكن قبوله، بزيادة بضع سنين أو نقصها، إذا
فهمنا من التدوين تلك العملية الواسعة التي تمت بإشراف الدولة، ابتداء من عهد
المنصور العباسي الذي ولي الخلافة ما بين سنة 136 ه وسنة 185 ه ، والتي طبعت
الحياة الفكرية والاجتماعية العربية الإسلامية بطابعها لفترة من الزمن امتدت نحو
قرن أو يزيد، فأصبحت علماً عليها وصار ذلك العصر يسمى: عصر التدوين.
أما إذا
فهمنا من التدوين مجرد التسجيل والتقييد وتحرير بعض المسائل في شكل مذكرات خاصة
فسيكون من الضروري حينئذ الرجوع إلى الوراء بعيداً ، إلى عصر الرسول
والخلفاء.
وفرق كبير ، وكبير جداً ، بين عمل فردي شخصي وعمل جماعي عمومي يخص
الأمة بأسرها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
وحدد النص كذلك الأماكن، أو الأمصار،
التي انطلقت فيها عملية التدوين تلك ، وهي مكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة
واليمن، وهي الأمصار التي كانت مراكز تجمع استقطبت الرجال الحاملين في وثائقهم
و"صدورهم" الموروث الإسلامي الذي كان قد بدأ يتضخم ويتشعب.
ويتألف هذا الموروث
من خليط من المعلومات والنصوص والتأويلات والشروح غير مبوبة ولا مصنفة ولا
مصفاة.
وكانت عملية التدوين تستهدف أساساً غربلة هذا "المجمع" من المعارف
وتبويبه مما سيسفر عن تصنيفه إلى حديث وتفسير وفقه ولغة وتاريخ.
ولم يغفل النص
الإشارة إلى الطريقة التي كان يمارس بها "العلم" والمعرفة من قبل ، فأوضح أن الناس
كانوا قبل هذا العصر "يتكلمون من حفظهم أو يرون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة" ، أي
من "تقييدات" غير مبنية على أي مقياس من المقاييس التي تراعى في تأليف الكتب عادة
كوحدة الموضوع وتبويب المسائل. . إلخ.