السماك
السودان في مطلع العام المقبل لتقرير مصير علاقته بالشمال.
وستقرر نتائج
الاستفتاء ما إذا كان السودان سيبقى دولة واحدة، أم أنه سينقسم إلى دولتين جنوبية
وشمالية؟ الاستطلاعات الأولية ترجح أن المزاج العام في الجنوب هو نحو
الانفصال.
السؤال الآن إذا حدث الانفصال في السودان هل يبقى العراق موحداً؟ يفرض هذا السؤال ذاته في
ضوء الموقف الأميركي الجديد.
يقول هذا الموقف أنه إذا لم يتفق الزعماء العراقيون
العرب والأكراد على صيغة لاقتسام السلطة، وعلى تحديد جغرافية إقليم كردستان، فإن
الولايات المتحدة المصرّة على سحب قواتها من العراق سوف تطلب من الأمم المتحدة
إرسال قوات دولية للمرابطة على الحدود بين العراق وإقليم كردستان.
وفي الواقع،
فإن كل مقومات الدولة الكردية أصبحت قائمة في شمال العراق.
الحكومة المحلية،
والبرلمان، والجيش "البشمركة".
فالحكومة المحلية تعقد اتفاقات التعاون
والاستثمار مع شركات أجنبية مباشرة.
وهي ترتبط بالعالم مباشرة أيضاً.
كما
أنها تعالج القضايا الحدودية مع دول الجوار -إيران وتركيا وسوريا - مباشرة
كذلك.
أما اختلافاتها مع السلطة في بغداد، فإنها تتمحور حول عدة قضايا جوهرية
وأساسية.
فالأكراد لا يقبلون بما هو أقل من رئاسة الجمهورية.
والأكراد يصرّون
على اعتبار كركوك (الغنية بالنفط) تابعة للإقليم الكردي.
والأكراد يتمسكون
باستقلالية قوات البشمركة المسلحة، ويرفضون انضمامها بأي صيغة إلى الجيش أو الى
قوات الأمن العراقية .
غير أن الأكراد ليسوا قوة واحدة وموحدة، فالقيادة الحالية
الممثلة في تحالف البرازاني - الطالباني تعتقد عن صواب أن المرحلة الانتقالية
الحالية تحتم توفير مظلة من الثقة مع دول الجوار تمهيداً للعبور الى المرحلة
المقبلة من دون إثارة مخاوف تعطل هذا العبور.
إلا أن هناك حركة كردية متطرفة
تخوض صراعاً مسلحاً مع إيران.
وهناك حركة أخرى تخوض صراعاً مسلحاً آخر مع
تركيا.
وتدرك الحكومة الكردية أن ذلك لن يؤدي فقط إلى حرمانها من المظلة التي
تحتاج اليها، ولكنه يؤلب دول الجوار ضدها ويثير مخاوفها من مبدأ قيام الدولة
الكردية.
ومن المعروف أن الأكراد الذين يبلغ عددهم حوالي 25 مليوناً موزعون على
أربع دول هي تركيا وإيران وسوريا والعراق.
وإذا كرس إقليم كردستان العراقي
استقلاله بحماية قوات دولية، فإن ذلك يشكل هدية معنوية كبيرة لتشجيع المناطق
الكردية الأخرى على التحرك من أجل إقامة الدولة الكردية الموحدة.
لقد انكفأ حزب
"العمال الكردستاني" طويلاً إثر نجاح المخابرات التركية باعتقال زعيمه عبدالله
أوجلان في نيروبي عام 1999، إلا أنه جدد تنظيم صفوفه من جديد بعد الاحتلال الأميركي
للعراق في عام 2003 .
ومنذ عام 2004 أصبح الحزب مرة جديدة قوة عسكرية سرية
منظمة.
وقد كشف عن ذاته الآن من خلال الضربات العسكرية الموجعة التي يوجهها
للجيش التركي، ليس فقد على طول الحدود التركية مع شمال العراق، إنما في العمق
التركي أيضاً .
ويبدو أن حركة انبعاث الحزب المسلح من جديد تأتي في إطار الصراع
على الزعامة الكردية.
ذلك أن تحالف البرازاني - الطالباني الذي نجح في تحقيق
الاستقلال الذاتي لإقليم كردستان دفع بحزب "العمال الكردستاني" رغم كل تضحياته إلى
الظل.
والظهور الجديد للحزب يكاد يكون إعلاناً غير مباشر، بأنه صاحب الفضل بما
حققه الأكراد من إنجازات قومية، وإنه بالتالي لا يقبل بأي معادلة تحوله إلى ضحية
وتحرمه من الشراكة في الانتصار.
وكان الحزب قد تشكل في عام 1978 على يد مجموعة
من الطلاب الجامعيين الأكراد في تركيا.
إلا أنه سرعان ما تحول من جمعية قومية
سرية إلى حركة مسلحة.
ولقد لعب الحزب على حبل الخلافات التركية- السورية، مما
وفر لعناصره ملاذاً آمناً في سوريا وكذلك في لبنان، الذي كان خاضعاً للنفوذ
السوري.
كما أن فصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان احتضنت هذه العناصر الكردية
وسهرت على تدريبها وتسليحها.
ولكن عندما عادت العلاقات التركية - السورية الى
مجاريها الطبيعية، غادر عبدالله أوجلان لبنان فطاردته المخابرات التركية الى مخبأه
الجديد في كينيا - نيروبي واعتقلته وحكمت عليه بالسجن المؤبد.
وهو لا يزال
مسجوناً في موقع سري في إحدى الجزر التركية حتى اليوم.
ولكن ذلك لم يقضِِ على
الحزب، الذي تولت قيادته مجموعة جديدة من المتطرفين الأكراد، بحيث أصبح الحزب اليوم
جزءاً من لعبة الأمم التي تجري في المنطقة.
من هنا، فإن القضية الكردية لم تكن
في أي وقت قضية عراقية، ولا قضية تركية، ولكنها قضية إقليمية في الدرجة
الأولى.
فاستقلال كردستان العراق قد يكون الخطوة العملية الأولى نحو فرض إعادة
النظر في خريطة المنطقة على أساس الحسابات العرقية، ومن ثم المذهبية
والطائفية.
ومن هنا العلاقة بين ما يمكن أن يحدث في جنوب السودان، وما يمكن أن
يحدث في شمال العراق.
ففي الوقت الذي تغرق فيه العاصمة العراقية بغداد في خضم
خلافاتها وصراعاتها السياسية حول تقاسم السلطة بين الأحزاب والطوائف، تحاول أربيل
عاصمة الإقليم الكردستاني أن ترسخ شرعيتها الدولية من خلال فك ارتباطها بالحركات
الكردية المسلحة التي تقاتل على الجبهتين التركية والإيرانية.
ولا شك في أن
الصراع المستجد بين تركيا وإسرائيل (على خلفية العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية
في المياه الدولية ومقتل تسعة أتراك كانوا على متن إحدى سفنه) وبين إيران والولايات
المتحدة (على خلفية الملف النووي الإيراني) يصب المزيد من الزيت على النار
المتأججة.
لقد وقع الأكراد ضحايا صراعات وتحالفات إقليمية ودولية
عديدة.
وقعوا ضحايا الصراع العراقي - الإيراني في عهد صدام - الخميني ، ووقعوا
قبل ذلك ضحايا التفاهم العراقي - الإيراني في عهد صدام - الشاه محمد رضا
بهلوي.
كذلك وقعوا ضحايا الصراع السوفييتي - الأميركي أثناء الحرب الباردة
..
ثم وقعوا ضحايا التفاهم الروسي - الأميركي بعد انتهاء الحرب
الباردة.
ووقعوا ضحايا الخلاف السوري - التركي، ثم وقعوا ضحايا التفاهم السوري -
التركي.
وفي ضوء هذه السلسلة الطويلة من التضحيات وما تحمله من تجارب باهظة
الثمن، هل يمكن أن يطمئنوا الآن إلى الوعود الأميركية بتوفير حماية دولية
لهم؟.
أم أنهم سيجدون أنفسهم كما جرى مراراً في السابق وجهاً لوجه أمام وقائع
سياسية جديدة لا قدرة لهم على تغييرها؟ الجواب على هذا السؤال رهن بما سيحدث في
جنوب السودان، فإذا تكرس الانفصال هناك لا سمح الله، فإن "صندوق بندورة" سوف يفتح
على مصراعيه ليخرج منه كل ما في المنطقة من مشاريع انفصالية نائمة..
لعن الله من
يوقظها.