كتاب
العلوم العربية الإسلامية فهي تحدد تاريخ الشروع في تأسيسها والمراكز العلمية
الأولى التي كانت مسرحاً لعملية التأسيس تلك والمواد التي كانت موضوع هذه
العلوم.
غير
أن الباحث الايبيستيمولوجي الذي يستفيد من دون شك هو الآخر من تلك المعطيات سينصرف
اهتمامه إلى ما هو أهم بالنسبة إليه، إلى عبارة "تدوين العلم وتبويبه" الواردة في
النص، فلنسلط الأضواء على مضمون هذه العبارة.
"تدوين العلم وتبويبه" غير إنتاج
العلم، تدوين العلم معناه: أن العلم جاهز وأن مهمة المدون، أي العالم، تنحصر أو
تكاد في التقاطه وجمعه وتبويبه.
ورغم أن مصطلح "العلم" في ذلك الوقت كان
يراد به أساساً "الحديث " وما يتصل به من تفسير وفقه فإن مضمونه كان ينصرف أيضاً
إلى "العلوم المساعدة" لهذا العلم الأصل، مثل علم اللغة والمغازي و"أيام
الناس".
وبعبارة أخرى كان "العلم" يستعمل في مقابل "الرأي" ، فهو إذن المرويات
من حديث وتفسير وغيرهما من المعارف الدينية.
ومن هنا اقترن "التدوين"
ب"التبويب" في العبارة التي نحن بصددها.
إن الأمر يتعلق أساساً بجمع الموروث
الفكري العربي الإسلامي وتصنيفه إلى فروع يشكل كل منها "فناً" من فنون العلم
والمعرفة، مستقلاً بنفسه أو يكاد.
ولكن "تدوين العلم وتبويبه" ، حتى بمعنى الجمع
والتصنيف لا غير ، لا يمكن أن يتم بدون "رأي" إذ لابد من انتقاء وحذف و"تصحيح"
وتقديم وتأخير. .
وهي عمليات تصدر عن "رأي" ولابد.
وإذن فلم تكن العملية تنحصر
في "حفظ" الموروث الثقافي العربي الإسلامي من الضياع، وهذا ما تدل عليه في الظاهر
كلمة "تدوين" ، ولا في تصنيف هذا الموروث حتى يسهل تداوله، وهذا هو المقصود من
"التبويب" ، بل إن العملية كانت في الحقيقة عملية إعادة بناء ذلك الموروث الثقافي
بالشكل الذي يجعل منه "تراثاً": إي إطاراً مرجعياً لنظرة العربي إلى الأشياء، إلى
الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ.
وحتى لا نطيل في مسألة أصبحت الآن واضحة،
وحتى لا نغرق بحثنا بتفاصيل أصبحت اليوم معروفة جداً ، وهي بعد تهم المؤرخ للعلوم
العربية الإسلامية أكثر مما تهم الباحث الايبيستيمولوجي، ننتقل إلى تحليل شهادة
أخرى ذات دلالة خاصة بالنسبة لموضوعنا: يلخص علماء الحديث المبدأ الايبيستيمولوجي
الذي يؤسس منهجيتهم، وبالتالي "علم" الحديث نفسه، في العبارة التالية: "قولنا حديث
صحيح لا يعني أنه صحيح على وجه القطع، بل يعني أنه صح على شروطنا، كما أن قولنا
حديث غير صحيح لا يعني الجزم بعدم صحته، فهو قد يكون صحيحاً في الواقع ولكنه لم
يصلح على شروطنا والله أعلم".
وإذا أضفنا إلى هذا أن ما يصدق على الحديث يصدق
أيضاً على التفسير والفقه واللغة و"التاريخ" لكون المشتغلين ب"التدوين والتبويب"
في هذه الفنون قد تبنوا منهجية أهل الحديث المعتمدة على الرواية والإسناد، إذ أضفنا
هذا إلى ذاك أمكن القول: إن الموروث الثقافي العربي الإسلامي الذي تناقلته الأجيال
منذ عصر التدوين إلى اليوم ليس صحيحاً "على وجه القطع" بل هو صحيح فقط "على شروط"
أهل "العلم" الشروط التي وضعها وخضع لها المحدثون والفقهاء والمفسرون والنحاة
واللغويون الذين عاشوا في عصر التدوين، ما بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن
الثالث للهجرة.
ونحن عندما نطرح المسألة هذا النوع من الطرح لا نهدف قط إلى وضع
تراثنا العربي الإسلامي موضع شك.
كلا، لقد حددنا موقفنا من الشك في التراث أو في
قسم منه في الفقرة السابقة.
إن ما نريد إبرازه هنا هو أن تلك "الشروط" لم تكن
جزءاً من "العلم" أي المرويات، بل كانت من عمل "الرأي" ، أي العقل، عمله
الأول.
وإذن فهذه الشروط شروط الصحة المعتبرة في عصر التدوين في الحديث والفقه
واللغة والنحو. .
تشكل أولى تجليات العقل العربي، أول مظهر من مظاهر الخلق
والإبداع في هذا العقل.
إنها العقل المكون في الثقافة العربية الإسلامية، العقل
العربي في أبرز مظاهره وأقوى مكوناته.
وبما أن هاتيك الشروط مازالت معتمدة إلى
اليوم، داخل الثقافة العربية، على الأقل كنقط استناد رئيسية، فهي تشكل الإطار
المرجعي للفكر العربي منذ عصر التدوين إلى اليوم، أو على الأقل القسم الأساسي
والرئيسي في هذا الإطار.
وإذن فالسؤال الذي طرحناه في بداية الفصل الأول من هذا
الكتاب بصيغة: "هل العقل العربي الذي سندرسه هو العقل العربي كما كان بالأمس أو
العقل العربي كما هو اليوم؟"، إن هذا السؤال يمكن إعادة طرحه بصيغة أكثر ارتباطاً
بمفاهيم الفكر المعاصر كما يلي: هل حقق العقل العربية قطيعة ايبيستيمولوجية مع
نفسه، أي مع "الشروط" التي تجلى فيها أول مرة والتي على أساسها "تكون" الشروط التي
وضعها أولئك الذين قاموا لأول مرة في تاريخ العرب ب"تدوين العلم وتبويبه".
أكيد
أن الجواب عن هذا السؤال يتطلب أولاً وقبل كل شيء المعرفة بتلك الشروط حتى يصبح في
الإمكان المقارنة بين اليوم والأمس، والنظر فيما إذا كان الاختلاف بينهما يرقى إلى
مستوى "القطيعة" أم لا.
ولكي نرتفع بفهمنا لتلك الشروط إلى مستوى السؤال الذي
طرحناه الآن لابد من لفت الانتباه إلى أننا لا نقصد بها الشروط التي صرح بها أهل
الحديث وجامعو اللغة وواضعو النحو ، أو استخلصت فيما بعد من طريقة عملهم مثل نقد
الرواة "التعديل والتجريح" وترتيب المروي درجات على سلم الصحة. .
كلا ، هناك شروط
صحة أخرى تؤسس تلك الشروط المعلن عنها ولكن لم يتم التصريح بها، لا لأن أسلافنا
قصدوا البخل بها على من سيأتي بعدهم، بل لأنها كانت تنتمي إلى لاشعورهم المعرفي،
فهم كانوا يعملون بموجب ما تمليه عليهم، ولكن دون أن يكونوا واعين لها تمام
الوعي.
وما دمنا نتحرك هنا في إطار المقاربات الأولية فلنسلط بعض الأضواء على
المحددات "الخارجية" لهذه الشروط قبل الخوض في تكوينها الداخلي: مكوناتها، طبيعتها،
آلياتها، الشيء الذي سيغطي فصولاً بأكملها من هذا الكتاب بجزئيه.
3 من فوائد
المنهجية الحديثة في قراءة النصوص أنها تعلمنا الانتباه ليس فقط إلى ما ينطق به
النص والكيفية التي بها بنطق، بل توجه اهتمامنا أيضاً إلى النظر في "ماسكت" عنه
النص والكيفية التي بها سكت.
لقد تحدث الذهبي في النص الذي أوردناه آنفاً عن
تدوين الحديث والتفسير والفقه واللغة والتاريخ وأيام الناس، وتحدث عن هذه الأصناف
من المعارف العربية الإسلامية باسم "العلم" ، وهو اصطلاح كان يعني، كما أشرنا إلى
ذلك قبل، المرويات أو المنقولات وذلك في مقابل" الرأي" الذي يعني الاعتماد على
العقل. .
وهكذا سكت النص عن جوانب أخرى من الحركة العلمية التي شهدها عصر التدوين
قبيل سنة 143 ه وبعدها.
لقد سكت عنها ليس لأنها لا تدخل في دائرة "العلم" ، إذ
هناك حركة "علمية" بنفس المعنى لم يشر النص إليها، بل أن تلك الجوانب المسكوت عنها
لم تكن تدخل في مجال اهتمامه ولا في دائرة حقله المعرفي.
ومن دون شك فلقد كان
للدوافع الإيديولوجية الدفينة دورها في هذا الإغفال.
لننظر إذن إلى الجوانب
المسكوت عنها في النص المذكور وهي لا تقل أهمية، ليس لأنها تكمل النص وتملأ ثغرات
كما قد يرتئي مؤرخ العلوم بحق، بل لأنها أيضاً ، في نظر المحلل الايبيستيمولوجي
تشكل جزءاً من الشروط الموضوعية التي أطرت الخلفيات الايسيتيمولوجية والإيديولوجية
للموقف الذي صدر عنه صاحب النص.
لقد سكت النص عن "تدوين العلم وتبويبه" لدى
الشيعة.
وإذا عرفنا أن جعفر الصادق الإمام الشيعي الأكبر قد توفي سنة 148 ه
وأنه تم في عهده تدوين الحديث والفقه والتفسير من وجهة نظر الشيعة، وبعبارة أخرى تم
في عهده وبإشرافه تنظيم الفكر الشيعي وصياغة قضاياه الأساسية صياغة نظرية، إذا
عرفنا هذا أدركنا خطورة هذا السكوت على الأجيال اللاحقة.
إن جانباً أساسياً من
تاريخ الفكر العربي الإسلامي سيغيب عن الأفق السني،وهو الأفق الذي ظل يشكل المنظور
الرسمي في معظم البلاد العربية.
وإذا عرفنا أن "التاريخ" ل"تدوين العلم
وتبويبه" عند الشيعة قد فعل هو الآخر نفس الشيء فسكت عن "العلم السني ، أدركنا أن
عملية التأطير بمعنى التطويق كان متبادلة: لقد كان السكوت عن "العلم " الشيعي
جزءاً من "الشروط الموضوعية" التي حددت وأطرت شروط صحة "العلم " السني ، والعكس
صحيح كذلك.