;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «19» 1985

2010-08-10 03:32:27

صفحة من
كتاب


وإذن فمن المنتظر، وهذا ما سنوضحه
فيما بعد، أن تكون المنهجية التي اتبعها اللغويون والنحاة الأوائل، وكذلك المفاهيم
التي استعملوها،والآليات الذهنية التي اعتمدوها. . من المنتظر أن يكون ذلك كله
"أصلاً" يعتمده مؤسسو العلوم الإسلامية، أو على الأقل يشتقون منه طريقة عملهم إن لم
ينسجوها على منواله.

وهذا لا ينفي بطبيعة الحال تبادل التأثير في مرحلة لاحقة فتصبح علوم
الدين مثالاً ونموذجاً لعلوم اللغة، كما سنبين ذلك في حينه.

وإذا أضفنا
إلى ذلك ما أكدته دراسات حديثة عديدة من كون اللغة أي لغة تحدد ، أو على الأقل
، تساهم مساهمة أساسية في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون وتصوره له ككل وكأجزاء،
ولاحظنا أن اللغة العربية ربما كان اللغة الحية الوحيدة في العالم التي ظلت هي في
كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرناً على الأقل، أدركنا مدى ما يمكن أن
يكون من تأثير لهذه اللغة على العقل العربي ونظرته إلى الأشياء ، تلك النظرة التي
لابد أن تتأثر قليلاً أو كثيراً، بالنظرة ألتي تجرها معها اللغة العربية منذ
تدوينها، أي منذ عصر التدوين ذاته.
وهكذا، فسواء نظرنا إلى اللغة العربية بوصفها
لغة "سحر وبيان" ، أو نظرنا إلى الدور الذي اضطلعت به في الثقافة العربية الإسلامية
ككل، أو إلى دورها المباشر وغير المباشر في تحديد أسس التفكير العلمي وأدواته في
هذه الثقافة، أو اعتبرنا تأثيرها في نظرة أصحابها إلى الكون والإنسان، سواء نظرنا
إلى اللغة العربية من هذه الزاوية أو تلك فإننا سنجد أنفسنا دوماً إزاء محدد أساسي
، ولربما حاسم، للعقل العربي بنية ونشاطاً، فلننظر إذن في الكيفية التي يتحدد بها
العقل العربي من خلال اللغة التي ينتسب إليها وتنتسب إليه ، ولنبدأ بإبراز بعض
المعطيات النظرية العامة التي قد تساعدنا على تمهيد الطريق نحو موضوعنا.
2
يعد المفكر الألماني هردر "HERDER" "1744 1803" من الرواد الأوائل الذين انصرفوا،
في العصر الحديث، بقسط وافر من جهودهم العلمية إلى محاولة ضبط العلاقة بين اللغة
والفكر وتحديدها، بل لربما يمكن اعتباره الرائد الأول للنظرية التي تعزو دوراً
أساسياً للغة في تشكيل نظرة الإنسان إلى الكون، وعلى الرغم من أننا قد لا نشاركه
همومه الإيديولوجية "القومية" التي كانت تؤطر من "الخلف" نظريته اللغوية، فأننا نرى
معه أن اللغة ليست مجرد أداة للفكر، بل هي أيضاً القالب الذي يتشكل فيه الفكر، ولا
نظن أن هناك من يجادل بجد في كون الطفل الصغير يتعلم التفكير بواسطة الكلمات التي
تقدمها له لغة المجتمع الذي ينشأ فيه، وإذا كان الأمر كذلك فإن عالمه الفكري سيكون
محدوداً ، ولابد، بحدود الامكانيات التي تقدمها له لغته الأم.
من هنا ربط هردر
بين خصائص اللغة وخصائص الأمة التي تتكلمها ، ذاهبا إلى القول بأن كل أمة تتكلم كما
تفكر وتفكر كما تتكلم، ليس هذا وحسب، بل إن كل أمة تحزن في لغتها تجاربها بما فيها
من عناصر الصواب والخطأ فتنقلها اللغة إلى الأجيال الناشئة واللاحقة، فتصبح أخطاء
الماضي، أو جزء منها على الأقل، من ضمن التراث الذي تنقله اللغة عبر الأجيال والذي
يساهم في تحديد نظرة أصحابه إلى الكون، إلى الحق والخير والجمال.
هكذا يقرر
هردر: "أن ربات المعرفة البشرية: الحقيقة والجمال والفضيلة قد أصبحت آلهة قومية
بمقدار ما هي اللغة القومية كذلك"، إن هذا يعني أنه حتى القيم المجردة المثلى التي
ينظر الإنسان إليها عادة على أنها قيم إنسانية خالدة لا تتقيد بالزمان والمكان،
تكتسي مع ذلك طابعاً قومياً من خلال اللغة، فنحن لا يمكن أن ندرك الحقيقة أو نحس
بالجمال أو نتعلق بالفضيلة إلا بنفس المعنى وبنفس المحتوى وبنفس الشكل الذي تنقل
اللغة لغتنا نحن هذه القيم إلينا، فاللغة إذن، ليست أداة وحسب ولا محتوى وحسب ،
بل هي معنى ما من المعاني "القالب" الذي تفصل المعرفة على أساسه "تماماً كما يفصل
الخياط الثوب على أساس قالب" ، فهي إذن: "ترسم الحدود وتخط المحيط لكل معرفة
بشرية".
وعلى الرغم من أن وراء تأكيدات هردر هذه دوافع قومية واضحة من السهل
فهمها إذاً تذكرنا حالة ألمانيا في القرن الثامن عشر. .
فإن ملاحظاته تلك لا
تكذبها الأبحاث والدراسات الحديثة التي تهتم بتحديد العلاقة بين لغة قوم وتصور
هؤلاء القوم للعالم، بل إن كثيراً من الدراسات اللغوية والايثنولوجية
تؤكدها.
يقول أدوارد سابير، وهو باحث لغوي واثنولوجي، إن "لغة جماعة بشرية ما،
جماعة تفكر داخل تلك اللغة وتتكلم بها، هي المنظم لتجربتها، وهي بهذا تصنع علامها
وواقعها الاجتماعي، وبعبارة أكثر دقة: أن كل لغة تحتوي على تصور خاص بها للعام" ،
ويلخص آدم شاف اتجاهات الرأي حول علاقة اللغة بالفكر داخل الدراسات اللغوية منذ
القرن الثامن عشر إلى اليوم فيقول: "ابتداء من هردر وولهلهم فون همبولد على الأقل
تبنت الدراسات اللغوية مرات عديدة الأطروحة القائلة بأن منظومة لغوية ما "الشيء"
الذي يعني ليس فقط مفرداتها، بل أيضاً نحوها وتراكيبها" تؤثر في طريقة رؤية أهلها
للعالم، وفي كيفية مفصلتهم له وبالتالي في طريقة تفكيرهم.
إننا نفكر كما
نتكلم. .
الشيء الذي يعني أن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي
تحدد قدرتنا على التفكير".
هناك أمثلة عديدة يسوقها علماء اللغة والايثنولوجيا
لتأكيد الآراء السابقة و"البرهنة" على صحتها، وهم يستقون أمثلتهم في الغالب من
الشعوب المسماة "بدائية"، وهكذا فالاسكيمو مثلاً يتوفرون على عدد هائل من الكلمات
التي تخص الثلج: أنواعه، تحولاته، تراكمه. .
إلخ، الشيء الذي يعني أن الاسكيمو
يتوفر عليها سكان المناطق الحارة.
ومن دون شك فإن الإنسان العربي في العصر
الجاهلي وكذلك سكان المناطق الصحراوية اليوم يتوفر على عدد هائل من الكلمات
التي تخص الحرارة: درجاتها، أنواعها، تغيرها بالعلاقة مع المكان والزمان. .
إلخ
هذا بينما لا يتوفر العرفي فيما نعلم إلا على كلمة واحدة تخص عالم الثلج، هي كلمة
"الثلج" ذاتها، ونحن لا نستبعد أن لا يتوفر الاسكيموا إلا على كلمة واحدة، أو على
أقل عدد من الكلمات التي تخص الحرارة، وإذن فالعالم الذي تقدمه لغة الاسيكمو عن
الحرارة سيكون فقيراً جداً بالنسبة للعام الذي تقدمه اللغة العربية لأهلها عن نفس
الموضوع، كما أن العالم الذي تقدمه اللغة العربية لأهلها عن الثلج سيكون فقيراًُ
جداً بالنسبة للعام الذي تقدمه لغة الاسيكموا لأهلها عنه، وهكذا يستحيل تماما إقامة
قاموس بين متكافئين في اللغتين، صحيح أن المسألة ترجع في نهاية الأمر إلى اختلاف
الظروف الطبيعية، اختلاف عالم الصحراء عن عالم المناطق المتجمدة في أميركا الشمالية
، وأن الاختلاف بين اللغة هنا وهناك أنما يعكس ذلك الاختلاف في الطبيعة، ولكن صحيح
أيضاً أن المتكلمين باللغة العربية اليوم وقبل اليوم سواء سكنوا المناطق الحارة أو
المناطق المعتدلة ظلوا ومازالوا سجناء العالم الفقير جداً الذي تقدمه اللغة العربية
لهم عن عالم الثلج، وهو الأوروبية مثلاً، وإذن فاللغة لا تعكس الظروف الطبيعية
وحسب، بل تحمل معها هذا الانعكاس نفسه لتنشره على أمكنة وأزمنة مختلفة، فتكون بذلك
عاملاً أساسياً ، وأحيانا حاسماً ، في تحديد وتأطير نظرة أصحابها إلى الأشياء، وإذا
كان هذا صحيحاً بالنسبة لكل اللغات حتى المتطورة منها، لأن تطور اللغة بطيء
بطبيعته، فأن اللغة العربية خصوصية تنفرد بها في هذا المجال، وإبراز هذه الخصوصية
والكشف عن مقوماتها وأسبابها هو ما سننصرف إلى البحث فيه الآن.
3 لننظر على
ضوء الملاحظات السابقة إلى قواميسنا العربية الراهنة، القديمة منها والمعاصرة "وهل
هناك من فرق بين الصنفين؟" ، وقد جمعت مادتها كما سنبين بعد قليل في عصر
التدوين من أفواه الأعراب الذين بقوا إلى ذلك العصر منعزلين لم "يتعكر" صفو لسانهم
بالاختلاط مع سكان المدن والحضر.
إن قاموس "لسان العرب" ، وهو أضخم وأغنى قاموس
في اللغة العربية، لا ينقل إلينا، على ضخامة حجمه، أسماء الأشياء الطبيعية
والصناعية ولا المفاهيم النظرية وأنواع المصطلحات التي عرفها عصره، القرن السابع
والثامن للهجرة، وفي القاهرة أحد المراكز الحضارية الرئيسية في التاريخ الإسلامي،
ذلك أن الثمانين ألف مادة لغوية التي يضمها هذا القاموس الضخم، الذي نعتز به، لا
تخرج عن دائرة حياة ذلك" الإعرابي" الذي كان بطل عصر التدوين حياة "خشونة البداوة"
بتعبير ابن خلدون، لقد دخلت في اللغة العربية كلمات وتعابير جديدة ومفاهيم فلسفية
وعلمية منذ عصر التدوين إلى عصر ابن منظور صاحب "لسان العرب" ومن ذلك يأبى الإطار
المرجعي للعقل العربي، عصر التدوين إلا أن يجعل اللغة العربية "الرسمية" أو
"الفصحى" ، لغة القواميس، تبقى دائماً هي اللغة التي جمعت وصنعت من طرف الخليل
وزملائه، أما ما حدث بعد ذلك ، بل وقبل ذلك، من تطور، فهو دخيل على لغة "الأعراب
الاقحاح" ، وذلك يجب تركه وإهماله، ومن هنا، وتحت تأثير هذا المبدأ جاءت قواميسنا
المعاصرة ، مجرد مختصرات مشوهة أحياناً للمعاجم القديمة، إنها لكي تكون "
عربية" يجب أن تضم لغة "العرب" وحدهم، لغة أولئك الذين اعترف لهم وحدهم عصر التدوين
بصفاء الهوية العربية وأصالتها.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد