;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «25» 1728

2010-08-17 04:53:05

صفحة من
كتاب


ونحن عندما نبرز أهمية الفقه في
الثقافة العربية الإسلامية، كماً وكيفاً، فليس ذلك من أجل الانخراط في عملية
التنويه الذاتي السائدة في الخطاب العربي المعاصر رداً على تحديات الغرب، بل إنما
نريد من وراء ذلك تأكيد الحقيقة التالي، وهي: إن الفقه الإسلامي كان ولا يزال أقرب
منتجات العقل ا لعربي إلى التعبير عن خصوصيته، وتاريخ تطور الفقه يزكي هذه الحقيقة
تمام التزكية:
فمن جهة كان الفقه هو
الميدان الذي تلاقت فيه مختلف الاختصاصات قبل عصر التدوين وخلاله وبعده، وكما لاحظ
المستشرق الكبير "هملتن جيب" فلقد استغرق العمل الفقهي "خلال القرون الثلاثة الأولى
"للهجرة" الطاقات الفكرية لدى الأمة الإسلامية إلى حد لا نظير له، إذ لم يكن
المسهمون في هذا الميدان هم علماء الكلام والمحدثون والإداريون فحسب بل إن علماء
اللغة والمؤرخين والأدباء أسهموا بانصباء في هذه المجموعة من المؤلفات التشريعية
وفي مناقشة القضايا التشريعية، وقلما تغلغل الشرع في حياة أمة وفي فكرها هذا
التغلغل العميق مثلما فعل في الأدوار الأولى من المدينة الإسلامية".
ومن جهة
أخرى، وباستثناء الشيعة الذين لهم فقه خاص يتوارثونه عن أئمتهم، فإن الخلافات
المذهبية داخل الفقه لم تكن تخضع دوماً للخلافات الكلامية، العقدية السياسية، بل
العكس لقد كان المعتزلة والأشاعرة والماتريدية و"السلفيون" منتشرين داخل المذاهب
الفقهية بشكل جعل المذهب الفقهي يعلو على كل المذاهب الأخرى، وهكذا فأمام كثرة ا
لمذاهب والفرق الكلامية والسياسية نجد الفقه يقوم بإعادة توزيع للشخصيات العلمية
مما يجعلها تجد نفسها تلتقي على صعيد المذهب الفقهي رغم كل ما يفرق بينها على
الصعيد العقائدي والسياسي والفلسفي، الشيء الذي ساهم ولا شك في جعل الثقافة العربية
الإسلامية تتهيكل عبر قنوات ومسالك تصب اللحام بين أجزائها من كل جهة، وليست هذه
القنوات والمسالك شيئاً آخر غير الفقه وعلوم الفقه.
هناك ظاهرة أخرى تؤكد قوة
الفقه واستقلاليته في الثقافة العربية الإسلامية لابد من تسجيلها هنا، ذلك أن
"الموروث القديم" الذي واجه الإسلام على صعيد العقيدة لم يكن له أي أثر على صعيد
الشريعة، أن التاريخ لم يسجل أي نزاع أو صراع بين "تشريع قديم" وبين التشريع
الإسلامي، كما لم يسجل أي تأثير ل"الحقوق القديمة" في الحقوق الإسلامية كما سبقت
الإشارة إلى ذلك قبل.
لقد حل التشريع الإسلامي الذي ظل إسلامي المنشأ وإسلامي
التطور محل التشريعات السابقة في جميع البلدان التي فتحها الإسلام، دون أن يسجل
التاريخ على عكس ما كان عليه الأمر في العقيدة أي صراع أو احتكاك بين "القديم"
السابق على الإسلام والجديد الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالأحوال الشخصية أو بغيرها،
هنا في مجال الفقه "جب الإسلام ما قبله" تماماً، نعم لقد كانت هناك أعراف عديدة،
بعضها امتصه الإسلام وتبناه وبعضها الآخر سكت عنه، ولكن ما يهمنا، في موضوعنا، ليس
الجانب التطبيقي للفقه في الإسلام، وإنما يهمنا بالدرجة الأولى بناؤه النظري،
وبعبارة أخرى التفكير الفقهي، ففي هذا المجال، مجال الآراء والنظريات، لم يكن
للثقافات والشرائع السابقة على الإسلام أي أثر على التفكير الفقهي
الإسلامي.
والحق أنه يجب التمييز بين الفقه العلمي والفقه النظري: ففي زمن النبي
والصحابة، وحتى أواخر العهد الأموي، كان الفقه "واقعياً لا نظرياً، فإنما كان الناس
يبحثون عن حكم الحوادث ويسألون عنها وبعد وقوعها أو يتقاضون فيها فتعالج بالحكم
الذي تقتضيه الشريعة، ولم تكن الحوادث تفترض افتراضً" أما بعد ذلك وابتداء من عصر
التدوين فلقد "أصبح الفقه يثمر من النظر والافتراض أكثر مما يثمر من الوقائع
والفعل".
لقد أصبح الفقه أشبه ما يكون برياضة ذهنية تفترض فيها الحوادث افتراضاً
ويبحث لها عن حلول. .
وفي عملية الافتراض تلك لم يكن الفقهاء يتقيدون ب"الممكن
الواقعي"، بل لقد ذهبوا مع "الممكنات الذهنية" إلى أبعد مدى، مما جعل الفقه في
الثقافة الإسلام ية يقوم بذات الدور تقريباً الذي قامت به الرياضيات في الثقافية
اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة، ومن هنا أهميته بالنسبة للبحث
الايبيستيمولوجي في الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي بالنسبة للعقل العربي
ذاته.
والواقع أنه إذ كان الفقه قد وظف جميع العلوم العربية الإسلامية من علوم
القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة والنحو والكلام، فإنه قد وظف أيضاً وعلى نطاق واسع
علم الحساب، وبكيفية خاصة في المواريث، أن علم المواريث "= الفرائض" كان أقرب إلى
الرياضيات من أي علم آخر في الثقافة العربية، بل يمكن الذهاب بالعلاقة بين
الرياضيات العربية والفقه الإسلامي إلى أبعد من هذا إذا نحن نظرنا إلى تقدم
الرياضيات من زاوية الحاجة العملية إليها، وهكذا، فإذا كانت حاجة الفيزياء في العصر
الحديث قد دفعت بالرياضيات مع ديكارات وفييت ونوتن. .
إلخ إلى التجدد الانطلاق في
درب التقدم المطرد، فإن حاجة الفقه النظري وبكيفية خاصة علم الفرائض قد دفعت
بالرياضيات العربية إلى التطور والتجدد بل ربما إلى "اختراع" علم الجبر والمقابلة،
إننا نكاد نجزم بان "الجبر العربي" يدين في وجوده للفقه والفقهاء، وإذا كنا لا
نستطيع الجزم بأن مؤسسه الجبر والمقابلة في الإسلام محمد بن موسى الخوارزمي الذي
عاش زمن المأمون قد اشتغل بالفقه، الشيء الذي لا نستبعده قط، فإنه يؤكد هو نفسه في
مقدمه كتابه "الجبر والمقابلة" إنه إنما ألفه من أجل "ما يلزم الناس من الحاجة إليه
في موريثهم ووصاياهم وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم. . "ولذلك نجده يخصص القسم
الثاني من كتابه للمسائل الفقهية تحت عنوان "كتاب الوصايا" بعد أن شرح في القسم
الأول القضايا النظرية العامة من جذور ومعادلات وغيرها.
ولعل مما لا دلالة في
هذا الصدد أن يعرف صاحب كتاب "مفاتيح العلوم" الجبر والمقابلة كما يلي" " الجبر
والمقابلة صناعة من صناعات الحساب وتدبير حسن لاستخراج المسائل العويصة في الوصايا
والمواريث والمعاملات والمطارحات"، ومما هو جدير بالانتباه أيضاً أن ابن خلدون يدرج
علم الفرائض ضمن "العلوم العددية" ويعتبره فرعاً من فروع الحساب والجبر والمقابلة
والمعاملات، ويعرفه بأنه "صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في
الوراثات. .
فتشمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه وهو أحكام
الوراثة. . .
وعلى جزء من الحساب".
وإذا كان ابن خلدون قد أدرج على الفرائض ضمن
العلوم العددية انسجاماً مع المبدأ الذي اعتمده في تصنيف العلوم جملة إلى علوم
نقلية وعلوم عقلية فلعل ضم علم الجبر والمقابلة إلى الفقه، لا العكس، يكون أدنى إلى
الصواب خصوصاً إذا نحن نظرناً إليه من حيث هو آلة للفقيه، أي بوصفه علماً مساعداً
للفقه.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد