لم أكن اعلم ماذا يخبء لي القدر في ذلك اليوم قبل حوالي تسعة أشهر حينما ذهبت لزيارة إحدى صديقاتي , بعد لحظات تم إبلاغنا أن والدها تعرض لحادث سير وتم نقله لمستشفى ابن سيناء , انتقلنا سريعاً إلى المستشفى للاطمئنان على حالته ,لم تكن إصابته بليغة والحمد لله .
وبينما نحن واقفون إذ بصديقتي تشدني من يدي وتدعوني للذهاب معها لحقت بها ومرينا بأروقة المستشفى التي تكتض بالمرضى والمراجعين وفي حالات تأسى لها القلوب مهما كانت متحجرة من جميع الأعمار والأجناس ،فالمرض لا يفرق بين صغير وكبير ,ذكر أو أنثى , حتى شعرت أنا نفسي بالمرض ولم تقو قدماي على حملي وصلنا إلى احد أقسام الرقود في المستشفى ومررنا على مجموعة من الأَسرَّة البيضاء التي يرقد عليها أصحابها ويعيشون بين مرارة الألم والمرض وأمل الرجاء من الله سبحانه بالتماثل للشفاء .
وعندما وصلنا إلى أحد الأسرة وقامت برفع الستار لم أتوقع ما رأيت أمامي ..مشهد أدمى قلبي وكأني بدأت أتهاوى وعجزت عن الكلام ..وجدت إنساناً فقد كل ما يمكن أن يربطه بالحياة في عالم لا يرحم.. كله وحوش وغابات ..وإنسانية تحتضر!.
انه ضيف الله ..! الراقد على سريره أو لنسميه مأواه الأبدي .. ضيف الله شاب في مقتبل العمر لم يتجاوز العشرين ربيعا ،فرداً من واحدة من آلاف الأسر الفقيرة المنتشرة في كل أرجاء البلاد ,ظروف حياته القاسية وعدم قدرة والده على الإيفاء بمتطلبات العيش وحاجة أسرته لدخل يسدوا به رمق العيش المضني في بلادنا أجبرته أن يعمل سائق "موتور" ينقل الناس عليه مقابل أجرة بسيطة .
دارت الأيام وضيف الله على هذا المنوال ,ولكن لم يعلم ضيف الله وهو خارج من داره صباح ذلك اليوم ودعوات ورضا أمه تلاحقه إلى باب الدار لم يعلم أن هذا اليوم هو آخر عهده بالحياة وآخر يوم يرى فيه والديه وإخوته وآخر يوم ترى عيناه نور الشمس كما كان يفعل كل صباح.. أبت أيدي التهور والهمجية واللامسؤولية إلا أن تغتال أحلامه وتنهي حياته بلا رحمة وتفقده كل شي ما عدا أنفاسه المتلاحقة التعبة التي تزيد عذابه.. نال التهور من جسد ضيف الله الضئيل وأردته صريعا في إحدى الطرق عندما تم دهسه من قبل شاب طائش يقود سيارة فارهة.
جراء هذا الحادث فقد ضيف الله حواسه الخمس وعجز تماماً عن الحركة حيث انه أصيب بشلل دماغي وعجز كامل في الوظائف الحيوية للجسم! ،كيف لأحد منا أن يتخيل أن يفقد فجأة كل شي بعد أن كان يملكه؟ ..سمعه وبصره ونطقه وأطرافه وإحساسه بالحياة ؟! .
من منّا يتحمل أن يصاب بمثل هذا الأذى الجسيم وتنقلب حياته رأساً على عقب؟! ،ضيف الله يرقد في المستشفى منذ عام وأكثر وهل يستطيع أحد منا أن يتحمل وجوده في المستشفى كمعاينة أو حتى زيارة لساعتين أو أكثر؟! ولا فائدة ترجى ،فحالته نفس الحالة وكان من المفترض أن يتم سفره إلى الخارج عله يتحسن ،ولكن من للفقير المسكين؟! ..من يسانده في هذا العالم الذي لا يرحم و القوي فيه يأكل الضعيف .
إحساس ضيف الله بالحياة انتهى في أقل من ثانية وسط شارع مزدحم؟! ،هل حياة الإنسان رخيصة بهذا الشكل؟! ..ضيف الله لا يرى الآن سوى السواد من الدنيا ولا ينطق حرفا غير (الآآآآه) التي تخرج مكلومة محزونة من رئتين منهكتين وصدر محطم تحت عجلات سيارة احدهم ..ولا يحرك إلا إصبعه السبابة يشكي حزنه ويبث ألمه إلى خالق الروح وبارئها العدل الجبار المنصف! ..أرهقني الموقف وخنقتني العبرة وأنا أشاهد أمامي مأساة إنسانية عظمى وواحد من آلاف الضحايا الذين يسقطون كل يوم شهداء لشوارعنا المهترئة وسائقينا المتهورين! ،مهما وصفت معاناة ضيف الله فلن أستطع أن أصل إلى ربعها حتى ،فلا يحس بمقدار ألمه ومعاناته غيره هو ..وأسرته المتألمة وأخاه الصغير المرابط بجانبه.
رحلت وفي قلبي جرح غائر يقطر حزنا وقهرا , وضميري يعذبني وكأني أنا التي تسببت بمعاناته.
لم أكن أنسى ضيف الله أبداً وكنت أنوي زيارته مرة أخرى ولكن ظروف الحياة أجبرتني على التأجيل دائماً ولم تترك لي فرصة الذهاب ويالها من حُجة واهية ..جاءتني الفرصة قبل أيام وأنا مارةُ بجانب المستشفى قررت فوراً الدخول والسؤال عنه وفي قلبي أتمنى إنه طاب أو تحسنت حالته ..دخلت المستشفى وقلبي يدق بقوة ,اقتربت من موظفة الاستقبال سألتها : هل ضيف الله موجود ؟ سألتني ضيف الله من ؟ قلت لا أدري ؟ أخذت تبحث في سجلات الكمبيوتر لم تجد له اسما .
سالتُ زميلها الذي يعمل من فترة طويلة أجاب هل تقصدي ضيف الله الصبري الذي رقد في المستشفى قرابة العام؟ قلت نعم؟ أجابني أنه خرج من زمان؟ سألته؟ هل ما زال على قيد الحياة ؟ قال :لا ندري عنه شيئا .. وأي حياة قاسية هذه التي سيعيشها وهو فاقد كل مقوماتها؟ مؤكد أن تكاليف المستشفى أرهقت أهله فآثروا نقله إلى البيت بما أنه لا أمل في عودته كما كان.. خرجت وأنا اجر أذيال الخيبة والحسرة والندم ودموعي لا تفارق عيناي.. يا لغبائي؟ حينما اعتقدت أن ضيف الله سينتظر حضرتي حتى أرجع بعد تسعة أشهر أو عشرة؟!!.
ليت شعري هل ما زال ضيفاً على الأرض أم اصطفاه ربي إليه؟
نداء لضيف الله ليته يصل إليه :
ضيف الله سامح أولئك الجبناء عديمي الإحساس والإنسانية الذين يكتفون بمجرد النظر بلا أمل يرجى منهم .. سامح سائقي السيارات المتهورين الذين ليس لأرواح البشر عندهم أي قيمة.. اغفر لأصحاب المال والنفوذ الذين يؤثرون صرفها بغير وجه حق ويبعثرونها هنا وهناك وأنت وغيرك كثير تعاني الأمرّين ولا عين تدمع ولا قلب يخشع ولا آدمية تتحرك ..ولا حياة لمن تنادي.
ضيف الله سامحني لأني لم أحضر طوال هذه الفترة وحُججي واهية ولا مبرر لي غير انشغالي بالحياة ومشاكلها التي لا تنتهي .
أرجو يا ضيف الله أن تسامحنا لأننا خذلناك ..ولم نكن كما كنت تتوقع.. اغفر لقلوبنا لأنها تحجرت.
أنت ضيف الله بحق , سواءً كنت الآن على وجه الأرض أو باطنها فروحك البريئة الطاهرة الصابرة على أقوى الآلام ..مؤكد أنها ستسامح بشراً قلوبهم ماتت!.
ملاك عبدالله
ضيف الله في الأرض ..! 1854