في البدء وبهدوء هل يمكن أن تصبح الخلطة السحرية التونسية الأخيرة هي الناجعة لإعادة الاعتبار للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في وطننا العربي ككل؟ وهل يمكن أن تتطور عقلية الأنظمة العربية مع تطور الشعوب أم ستبقى على حالها؟
ثم ما الذي يمنع من اقتراب الحاكم من الشعب والنزول للشارع لمعرفة مدى ارتباط المواطن به كنظام حاكم من عدمه دون الإعتماد على الحرس القديم الذي ثبت وتأكد وبالدليل القاطع فشله وعجزه بل انتهاء فترة صلاحياته تماما؟
بالأمس القريب أعجبني كثيراً تصريح أحد الوزراء في دولة عربية كبيرة وهو يقول سنحتاج لقرابة مليار دولار لدعم المواد الغذائية الأساسية هذا العام، وربط الوزير إياه هذا الموضوع بالمتغير الجديد الطارئ على الساحة العربية والمتمثل بسقوط النظام التونسي تحت صيحات الشعب وبالصورة التي شاهدها الجميع في الوطن العربي والعالم أجمع.. ولم يعد هناك ما يحجب الرؤية، وإلا فما معنى عصر الصورة والمعلومة؟
بل حتى أن القمة الاقتصادية العربية لم يكن بمقدورها تقديم ضعف هذا المبلغ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء وجه الزعماء أمام شعوبهم.. على ذات الصعيد وفي آخر لقاء للمفكر والصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ـ على شاشة الجزيرة قبل ما يزيد عن شهر تقريباً، ورداً على سؤال لمحمد كريشان، كان الرجل قد تنبأ أو اقترب من وجه الحقيقة فيما حصل في تونس وإن كانت الحلقة التلفزيونية قد تمحورت حول النظرة المستقبلية واستشراف المستقبل حيث قال هيكل:
إن النظام الرسمي العربي ما يزال يعيش ويفكر بعقلية فترة الحرب الباردة أو ما قبل الحرب الباردة وبصيص الأمل أو نقطة الضوء الوحيدة الساطعة في سماء الأمة العربية هي تطور الشعوب العربية والشباب على وجه الخصوص بدخولهم الألفية الجديدة أو العشرية الثانية بروح العلم متمثلة بهذا الزخم المتنامي في متابعة الأنترنت والبحث عن المعلومة.
وحدد الأستاذ/ هيكل نسبة أعداد المتصفحين للانترنت بالعالم العربي إن لم تخني ذاكرتي بما يفوق 200 مليون متصفح أو أكثر من ذلك بكثير، وبصريح العبارة دهشت أنا شخصياً لمثل هذا الكلام ولم أكن أتصور أن تتسارع الأحداث وبهذه السرعة لتكشف لنا صدق قراءة هذا الجهبذ القارئ للمشهد العربي وبهذه الصورة الدقيقة.
وعودة إلى بدء أقول: ألم يكن زين العابدين بن علي قادراً على خلع رموز الفساد من أركان حزبه ومن حاشيته وغيرهم والحفاظ على كرسي الحكم ولمدة أطول؟
الإجابة بكل تأكيد وبدون مقدمات.. بلى كان باستطاعته إزاحة السياج الهش الذي كان يحيط به من حرسه القديم الفاسد والمتهالك والذي أكل عليه الدهر وشرب، لكن الوقت كان قد أزف، لذلك لم يكن أمام بن علي سوى تلك الكلمة الشهيرة (فهمتكم) لكن بعد ماذا فهم الزعيم الدرس؟ بعد أن حال بينهما الموج وارتفع الطوفان ولم تعد الفرصة مواتيه لإصلاح ما أفسدته العقول الصدئة والمريضة.
عقدان ونيف من الزمن مرت ولم يفهم شعبه إلا في لحظات الوداع، ويا لها من ساعات وداع مريرة وكأني بلسان حاله يقول (يا ليتها كانت القاضية) خذله القريب قبل البعيد ورفض استقباله الشقيق قبل الصديق، هذا المشهد الرهيب لهذا الرئيس المخلوع الذي أصبح بين عشية وضحاها مطارداً ومنبوذاً من كل الناس، أظن أن أكثر من يفترض أن يستفيد من قصته هو الحاكم العربي دون استثناء من المحيط إلى الخليج.
وبالمقابل هناك صورة ناصعة البياض لرئيس وزعيم لا علاقة له بالشأن والواقع العربي لكن اقتراب وتشابه الوضع والظرف العربي بدول الجنوب الأميركي دفعني للاستشهاد بقصته، وهو الرئيس البرازيلي السابق (لويس ايناسيو لولا دي سيلفا) الذي حكم البرازيل من العام 2002م حتى العام 2010م (دورتين انتخابيتين) وبعد انتهاء فترة حكمه الثانية قام أحد المراكز البحثية بإجراء استطلاع لقياس مدى شعبيته وكانت النتيجة حصوله على 90% من الأصوات، هذا بعد أن قام خصومه السياسيون بمحاولات تشويه صورته وبكل الطرق لكن إيمانه بمسؤوليته وحبه للبرازيل جعل منه الأسطورة حتى بعد رحيله.
وعندما سئل "دي سيلفا" كيف حققت هذا الإعجاب؟ قال: نحن دولة يحكمها القانون ولا مكان بيننا للفساد والمفسدين وكلنا متساوون أمام القانون لا فرق بين غني وفقير، أسود وأبيض، حاكم ومحكوم، طويل وقصير.. فالعدل أساس الحكم إذاً.. هذا الرئيس عندما صعد للحكم في عام 2002م كان نسبة احتياط البرازيل من العملة الصعبة لا يتجاوز ال38 مليار دولار وعند نهاية ولايته الثانية عام 2010م كان قد بلغ احتياط البرازيل ما يزيد عن 285 مليار دولار، وبنهاية حكمه كانت البرازيل قد تحررت من قيود البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
خلاصة القول: إن الشعوب لا تريد كلاماً بل أفعالاً والرئيس "لويس ايناسيو دي سليفا" وفر خلال فترة حكمه للشعب البرازيلي قرابة "10" ملايين فرصة عمل، أي بمعدل "5" ملايين فرصة عمل كل أربع سنوات، ألم أقل لكم إن الشعوب لا تحتاج للكلام بل لمن يقدم مصالح شعبه وأمته على ما سواها.. فهل يستفيد العرب من تجارب البرازيل وماليزيا وتركيا والهند والصين وبلدان أخرى عديدة خفضت البطالة وحققت قفزات تنموية كبيرة، أم ما يزال لدينا متسع من الوقت ولا يروق لنا تقليد الآخرين إلا في مجال الموضة والمكياج والملبس وأنواع الأكلات والطبخ والطهي وتصميم ديكورات غرف النوم واختيار نوعية بلاط دورات المياه والمطابخ وخلاف ذلك من الكماليات؟
وخلاصة الخلاصة أن محاولة أحداث قطيعة وتنافر بين مكونات النظام الرسمي والشعوب العربية مصيبة وكارثة حقيقية ينبغي التنبه لها وعدم إدارة الظهر لكل ما يجري خصوصا وقد بدأت الشعوب تدير الأمور وتدعو للمظاهرات عبر "الفيس بوك" ومواقع الانترنت ولم يعد هناك ما يمكن حجبه على الشارع، لذلك ينبغي أن يرتقي تفكير الجميع في هذا البلد بل علينا جميعا تجاوز هذا المربع الخطير والانتقال إلى مرحلة جديدة نتخلص فيها من كل الشوائب والأدران ونلحق بركب التنمية والتطوير والتحديث ولا مجال للمراوحة أو البقاء عند مربع الشك والتشكيك والتجهيل والفرز الخاطئ وإلا فالعواقب وخيمة ..ثم لله الأمر من قبل ومن بعد!
abast66@hotmail.com
عبدالباسط الشميري
الزعماء العرب والخلطة التونسية الفاخرة! 1969