إن المرء الذي يعيش لنفسه فقط يعيش صغيراً مهما بلغ من العمر وتكون أفكاره صغيرة وطموحاته قاصرة.. فهو عديم الفائدة عقيم الإنتاج رسالته في الحياة -رسالة الحيوان- الذي يعيش ليأكل ويشرب وينكح دون أن يحمل أي هم.
أما الإنسان الذي يعيش للمبادئ والقيم ويحمل هموم الإنسانية.. فإنه يعيش عظيماً كبيراً حتى ولو كان صغيراً في سنه.. الإنسان الذي يعيش لغيره يعيش التاريخ بطوله وعرضه حتى بعد مماته, إن التاريخ خلد سير العظماء وعاشوا حياتهم قروناً، لأنهم حملوا هموم أممهم ومجتمعاتهم.. فمثلا خلد التاريخ أسماء الأنبياء وأتباعهم الذين تميزوا بعلو الهمة.. وكذلك خلد أسماء المخترعين وبعض الأطباء الذين ضحوا بجهودهم مع مجتمعاتهم وإن كانوا غير مسلمين لأن العدل صفة الله العظيم.
إن الذي جذبني إلى الكتابة في هذا الموضوع -الذي لن أستطيع أن أعطيه حقه الوافي- هو موقف حصل لي في منطقة "الصافية" وأنا في طريقي إلى منزل أحد الزملاء الذي عزمني على وجبة الغداء وفي طريقي وجدت طفلاً صغير السن لا يتعدى سنه الـ"4" سنوات لفت انتباهي وهو يقف على ناصية الشارع العام يتلفت يمنة ويسرة.
فخفت عليه من خطر السيارات وأمسكت بيده لأساله عن بيته ومن أين أتى ولعله تائه.. فنظر إلي ولعله شعر أن همي هو همه.. فبادرني بالكلام قائلا: (يا منعاه إدي عشرة ريال).. فأدخلت يدي في جيبي وأخرجت له عشرين ريالاً.. فناولته إياها وقلت له هيا أوصلك البيت وهو منشغل عني بالتلفت يميناً ويساراً ثم نظر إلي وقال (يا منعاه اقطع بي الشارع ).. فأخذته إلى الجهة الأخرى من الشارع وإذا به يتجه إلى أحد المساكين العاجزين عن الحركة ويناوله المبلغ الذي بحوزته.. فكبرت وحمدت الله على ذلك الفعل الذي عجز عنه الكثير من كبار السن.. فأعدته إلى جهة منزله بعد أن سألت عنه جيران الموقع الذي وجدته فيه وبقيت ممسكاً بيده حتى وجدت أحد أقربائه وسألته عن اسم ذلك الطفل الكبير.. فاخبرني بأن اسمه "عمرو عارف جياش".
لقد غمرتني السعادة عندما وجدت مثل تلك الأسرة العظيمة التي تربى في كنفها "عمرو" حفظه الله تلك الأسرة التي لا يمكن أن يتخرج منها مثل ذلك البطل إلا إذا كانت تحمل رسالة سامية ومما يدل على ذلك أن الأخ الأكبر لعمرو عندما وجدته وسألته عن أبيه ورقم هاتفه لم يتأخر ولم يسال لماذا.. بل بادر بإعطائي الاسم والرقم والوظيفة لوالده.
لقد ذهب عمرو بالعشرين الريال إلى المسكين لأنه تألم مما رأى وآثره على نفسه.. فلم يذهب بها إلى الدكان كما يفعل الأطفال، لقد حمل هم المسكين الذي تجاهلته الدولة.
فهنيئا لأسرة بتلك التربية وهنيئا لـ"عمرو" وإخوته بتلك الأسرة الفاضلة التي أحسبها كذلك والله حسيبها.
فيا ليت أن المجتمع يحمل الهم الذي يحمله "عمرو" لما افتقرنا للأمن والاستقرار ولعشنا كباراً ولكان الإخاء والمحبة يعم المجتمع اليمني بأسره ولوقفنا بشجاعة وثبات في كل المواقف.
سلام سالم أبوجاهل
لنعش كباراً . 1981