أول معنى للثورة السلمية هو صدورها عن توحد شعبي شامل حول هدف واحد وهو إسقاط النظام، هذا التوحد هو شرط الثورة، ومن دونه لا مجال للحديث عن ثورة تنجز مثل هكذا تغيير جذري.
وفي اليمن يتجلى الآن هذا الإجماع في مدنه وساحاته، وشماله وجنوبه وقبائله، وجباله وسهله وساحله، ويوم أمس دوت صيحات اليمنيين وهتافاتهم في ساحات الحرية والكرامة تهتف باسم الجنوب وتضامناً مع إخواننا في يافع تحديداً، ومع الجنوب ككل، الذي تعرض أبناؤه للقمع والقبضة الأمنية طوال الأربع سنوات الماضية.
على مدى السنوات الماضية شكل الحراك الجنوبي حالة استثنائية من النضال السلمي لانتزاع حقهم في الحياة والعمل وإعادة أملاكهم المصادرة في بلدهم الذين ضحوا من أجله وناضلوا من أجل توحده وتطوره، ثم وجدوا أنفسهم يعاملون من قبل النظام المنتصر بالحرب كمهزومين.
كانت هذه الحركة أهم حركة نضال سلمي في الوطن العربي قبل قيام الثورات العربية التي انطلقت إشارة بدئها من تونس في 14 ديسمبر من العام الماضي.
وقد خرج أبناء عدن والضالع وحضرموت وأبين وشبوة وردفان، في مسيرات وتظاهرات احتجاجية متواصلة، وأطلقت عليهم القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي، وسقط مئات الشهداء والاف الجرحى، غير أن كل ذلك لم يثنهم عن مواصلة الحراك والنضال السلمي.
وخلال العامين المنصرمين أدت القبضة الأمنية والتعامل مع القضية الجنوبية من منظار أمني وعسكري فقط إلى وجود حالة من الفوضى تعبر عن خلط متعمد للأوراق من قبل النظام من جهة وأطراف استوت على أرضية اليأس، وانعدام الرجاء في حل يعيد للناس كرامتهم وحقوقهم ومكانتهم كشريك في دولة الوحدة المرجوة من جهة ثانية.
هكذا سمعنا وشاهدنا أصواتاً وتوجهات تنادي بالانفصال وفك الارتباط ولمسنا انفصالاً نفسياً، كان مفهوماً وطبيعياً في ظل نظام لا يقبل بأقل من إذلال الناس وقهرهم.
فعلى أرضية اليأس يستوي الشيء ونقيضه، على أرضية اليأس وانعدام الأمل، اندفعت بعض الأطراف إلى رفع السقف إلى حد يشبع حالة الغضب واليأس، بينما بقيت قطاعات واسعة من أبناء الجنوب في حالة تجاذب ما بين مسميات عديدة للحراك، وصلت إلى حالة من الشلل نتيجة لإخفاقها في الإجماع على رؤية واضحة ومحددة، كان بإمكانها أن تؤدي في حالة تحققها إلى قيادة موحدة تطرح وجهة نظر مجمع عليها من الشارع الجنوبي.
وبالتوازي مع هذا الحراك كانت محافظات شمال اليمن في حالة غضب ورفض للنظام غير أنها بقيت حالة غير مؤثره.. صحيح أن اللقاء المشترك أوجد حراكاً على مستوى اليمن منذ نشأته قبل عشر سنوات ووصل إلى ذروة هذا الحراك السياسي في 2006م، غير أن الأوضاع اتجهت في منحى آخر عقب فشل التغيير بواسطة الانتخابات الرئاسية في ذلك العام.
فالجنوب صعد من حراكه السلمي، وأدت حروب صعدة المتتالية دون حسم إلى توسع المشكلة هناك، وإلى إصابة الإدارة السياسية بالشلل وتعميم النظر والإدارة الأمنية والعسكرية في عموم البلد.
والأهم من ذلك كله أن اليمنيين كغيرهم من العرب كانوا في حالة يأس من إمكانية تغيير نظام سياسي وأدى رسوخ الأنظمة الاستبدادية ومضيها في تأبيد الرؤساء في الحكم والتوريث لأبنائهم إلى هذه الحالة من اليأس مترافقة مع حواجز منيعة بنيت على مدى عقود، حواجز الخوف وموت السياسية، وتواري التضامن والاهتمام بالشأن العام، حتى وصل العرب ومنهم اليمنيون إلى حالة من التفكك الاجتماعي والانقسامات حتى أن كل فرد كان في نفسه جزيرة منعزلة عن الآخرين.
وما أن لاحت ومضة الأمل من تونس حتى سرت الحياة في أوصال الأمة من مشرقها إلى مغربها.
في تونس تأكد العرب أن بالإمكان تغيير نظام سياسي، وأن هؤلاء الرؤساء اللذين بدوا وكأنهم قضاء وقدر لا راد له، بالإمكان أن يهربوا ويخرجون من القصر الدائم تحت وقع نضال سلمي سلاحه الوحيد الهتاف والتظاهر السلمي والاعتصام.
بالإمكان أن يرضخ الغرب المهيمن على إرادة شعب حيَّ استطاع أن يجمع شتاته ويتوحد حول هدف واحد: تغيير إدارة المجتمع العليا وإذا بـ"بحر" السياسية الميت يتماوج بعشرات الملايين من القاهرة إلى صنعاء وتعز وعدن وطرابلس ودمشق، خرج شباب المدن العربية وشاباتها وشيوخها وأطفالها في لحظة فارقة واستثنائية لأنهم اكتشفوا أنهم بشر مثل غيرهم وبإمكانهم أن يكونوا أحراراً وأصحاب إرادة وشعوب حرة فعلاً وهذه الثورة كان لها وقع السحر في اليمن.
هذا الأمل الذي لاح بإمكانية تغيير النظام وحد اليمنيين وأقنع اليمنيين الأحرار في مدن الجنوب بإمكانية حل القضية الجنوبية في إطار اليمن الكبير الموحد.
والحال أنه لم يكن بالإمكان التعامل مع القضية الجنوبية من دون تغيير جذري في بنية النظام الحاكم الذي أصبح وجوده عامل تشظ ومضخة مشاكل لليمن من أقصاه.. أرضية الأمل هذه التي خلقتها الثورة هي الضامن الأكبر لحل القضية الجنوبية والتحديات الأخرى التي استعصى حلها في ظل نظام وصل ـ ومعه البلد ـ إلى حالة انسداد شامل.
وحدها ثورة الشعب اليمني السلمية بعثت الأمل في كل اليمنيين وأعادت لهم الثقة بالمستقبل وروح المبادرة في الحاضر.
مصطفى راجح
الثورة اليمنية تهتف لجنوبها 2684