الثلاثة دفعة واحدة على الشاشة "القذافي، صالح، الأسد"، ربما أن ازدحامهم هذا أجل خروجهم من باب في حال انسداده، الثلاثة متشبثون، ويواجهون التحدي بالتحدي.
القذافي مازال يواجه التحدي بالتحدي، غير أن الجملة التي صرح بها مرفوقة بتلويحته الأخيرة لقبضتيه المرفوعتين إلى الأعلى، جاءت هذه المرة من العتمة، قالها بصوت مشكوك بقذافيته، عبر كاسيت بعثه من مكان ما يختبئ فيه، كأي إرهابي أو مطلوب يتخفى بعيداً عن الملاحقة والجمهور عموماً.
الأكثر غرابة من هذا أن القائد المرجعية لليبيين يتحدى العالم كله بأن يعرف مكان وجوده، هكذا قالها بالحرف، إنه في مكان لا يستطيع أي كائن أن يصل إليه، لم يعد لدى قائد الجماهيرية ما يباهي به، سوى قدرته على الهروب والتخفي، نسي كل شيء، ليبيا المدمرة بفضل عناده وانتصاراته على أميركا وأوروبا والجرذان، وحتى ولعه بالجماهير والخطابة والظهور ولفت الأنظار بالملابس المزركشة والتقليعات، نسي كل شيء حتى كونه رئيساً واختار الحضور على شكل تسجيل صوتي، يتحدى فيه العالم بأن يعرف مكان اختبائه.
طيب.. لماذا كل هذا العناد والمكابرة والمقامرة بليبيا ومواطنيها، من أجل البقاء حاكمً إذا كان في نهاية المطاف يبدي استعداداً مقيتاً كهذه المفاخرة بكونه هارباً مختبئاً؟!.
أي رئاسة بقت للرجل وأي قيادة؟ أين سيقدم السفراء أوراق اعتمادهم؟ وكيف لزعماء العالم أن يتخاطبوا مع قائد مشفر؟.
إذن يحيلنا ذلك إلى معنى آخر، معنى المباهاة بالاختباء أن القذافي لم يعد رئيساً، بل طريداً، لا حيلة أو منقذ لإثبات الذات سوى الوقوف على امتياز يفضله عن الآخر، أعداؤه في كل مكان، ولو كان على شاكلة القدرة على التخفي وإطالة أمد جرائمه ضد الليبيين، وليس إطالة رئاسته!.
إذا كان الأمر كذلك من البداية، فلماذا لا يستقيل؟، هو هدد باستخدام القوة ضد مواطنيه الجرذان، واستخدمها بالفعل، غير أن خياره الوحيد هذا بعد فقدانه لشرعيته، لم يثمر في إعادة سلطته وشرعيته، واقتصر أثره على الانتقام من الليبيين وإطالة أمد الثورة، والانتهاء هارباً مختبئاً في مكان مجهول.
وما دامت القوة لا تعيد السلطة، وإنما تشبع نزعة الانتقام من الشعب فقط كان الأجدر به أن يستقيل، على الأقل كانت الاستقالة ستؤدي إلى تواريه عن مسرح الأنظار، إلى نمط حياة لا يخلو من الضوء بأي حال، حتى لو كان هذا المسرح الخلفي هو محكمة الجنايات الدولية في أوروبا، على الأقل هناك سجن يمارس فيه حياته العادية كسلفه "ميلوسفتش"، الذي وفر له حديقة وتلفازاً وأدوات لممارسة الرياضة، وطعاماً يومياً يليق برئيس سابق، ودولاب ملابسه كاملاً، وزركاشته، ومحاكمة عادلة.
حتى هذا المصير الأكثر سوءً للقذافي، فيما لو اختار تجنيب شعبه القتل والدمار، كان خياراً جيداً بالنسبة له، عن هذا المآل البائس كرئيس هارب يباهي بالاختباء، رئيس بلا شرعية، مخلوع، مشتت، أزهق أرواح كثيرة.. كثيرة بلا عدد، بمن فيهم ابنه وأحفاده.
كل ذلك لا ليبقى رئيساً، بل ليفاخر الدنيا بمخبئه، الفريد والنادر، كفرادته وفرادة كل شيء فيه، من نظريته الخضراء وخطاباته وتقليعاته المزركشة، إلى نهايته الغرائبية التي تتبدى الآن.
قصف القذافي مدينة مصراتة لمدة شهرين بالدبابات والطائرات والمدفعية والقنابل العنقودية والقناصة وكل أدوات القتل، وفي نهاية المطاف صمدت المدينة واندحرت كتائب القتل، صمدت المدينة بإرادة أبنائها فقط ورغبتهم بالحرية وليس ببعض بنادق انتزعوها من أيدي الكتائب.
صمدت مصراتة بإرادة الحرية وليس بحلف الأطلسي الذي أطال الحرب ومددها، ليتسنى له ترتيب أوراقه وانتهى القذافي بسجل حافل بجرائم الإبادة ضد شعبه، دون أن يستعيد رئاسته، فهل يكفي كابحاً مآل كهذا لعتاة، رغم كل ما فعلوه لازالوا على أبواب الحرب الشاملة ضد شعوبهم؟.
??
مصطفى راجح
لم يعد لدى القذافي ما يباهي به.. سوى مخبأه!! 2362