الرؤية الجديدة للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تستدعي نقاشاً جاداً وعميقاً للتفاعل معها، يتجاوز المواقف الآنية، وهي مواقف محكومة بمتطلبات سياسية، وتكتيكية تظهر أحياناً التحفظ والفتور في حث الأميركيين على التقدم أكثر إزاء طرف داخلي في بلد ما، أو على مستوى الإقليم وهذه الرؤية لا تتحدد فقط بالجمل ومدى تضمينها شحنات تعبيرية أكثر قوة وإنحيازاً للقضايا العربية سواءً الثورات السلمية أو القضية الفلسطينية، وإنما تحدد بإقرار إدارة أوباما بالمبدأ نفسه، ضرورة مراجعة سياساتها السابقة التي انحازت لأنظمة ديكتاتورية تناقض القيم الديمقراطية وروح العصر التي ارتكزت على حق البشر في الحرية والكرامة والاختيار، والعمل والحياة بغض النظر عن لونهم ومعتقدهم وانتماءاتهم العرقية.
صحيح إن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تدرك هذه الحقيقة، وليس الأمر مفاجأة لهذه الإدارة، غير أن الملمح الأكثر وضوحاً الآن هو أن العامل الرئيسي المؤثر في السياسة الأميركية هو شعوب المنطقة نفسها، فالصيغة القديمة للسياسة الأميركية التي ارتكزت على دعم أصدقاء أميركا، هؤلاء المستبدون الذين تربعوا على المنطقة العربية لعقود طويلة ـ هذه الصيغة التي دعمتهم مقابل تحقيقهم للمصالح الأميركية بدون شروط أو اعتبار لمصالح الشعوب، قد انتهت الآن ومن أعلن انتهاءها هي الشعوب العربية الحرة في تونس والقاهرة وليبيا واليمن وسوريا، وليس أوباما.. هو فقط كان برجماتياً مثل السياسة الأميركية، التي لا تكابر في التمسك بالصيغ القديمة وتبحث عن تحقيق مصالحها وفق المعطيات الجديدة والثورات العربية هي المعطى الأكثر واقعية وحضوراً الآن.. ولا نغفل هنا الاستعداد الذاتي لشخص أوباما وما يمثل من دلالات عميقة للتغيير كأول رئيس من أصل أفريقي يحكم أميركا، هذا البلد المتنوع والقوة المهيمنة على المسرح العالمي.
وإذا عدنا إلى الخلف سوف نلاحظ في التجربة التركية أن صعود التيار الإسلامي إلى الحكم وتزامن صعوده مع خفوت دور المؤسسة العسكرية لم يدفع السياسة الأميركية إلى تبني أي إجراءات أو سياسات لعزل تركيا، وإنما استسلمت للأمر الواقع وبحثت عن صيغة جديدة تحقق مصالحها تأخذ بالاعتبار الوضع الجديد وكذلك فعلت عندما برزت الثورتان التونسية والمصرية كأمر واقع.
ملخص القول هنا أن مصالح الدولة العظمى أميركا والاتحاد الأوروبي وأي دولة ستكون موجودة دوماً، فقط سوف تختلف الصيغة بعد الثورات.
فبدلاً من صيغة مصالح تقوم على مقايضة دعم نظام ديكتاتوري لا يحظى بشرعية شعبية مقابل فتح المجال بلا حدود للمصالح الخارجية وفي سياق لا يحقق أي مصالح للداخل بل يهدرها ـ بدلاً عنه ستوجد صيغة مصالح مشروعة للخارج مقابل تحقيق مصالح البلد المعني، ويأخذ هذا الوضع بالاعتبار وجود نظام حكم يحظى بشرعية شعبية تمنحه قوة والتزاماً أمام الخارج.
وإذا نظرنا الآن للنموذج الليبي الأكثر تفجراً والذي استدعى تدخلاً أممياً، نقول إن هذا التدخل كان بدافع إنساني أساساً، وإن المصالح ليست الدافع الرئيسي لهذا التدخل، ومن يتحدثون عن النفط الليبي الآن، ينبغي أن يسألوا أنفسهم أولاً أين كان هذا النفط وإيراداته طوال أكثر من "43" عاماً؟ كان يبدد من قبل القذافي، وآل في نهاية المطاف إلى الأطراف الخارجية بصيغة تحقق مصالح هذا الخارج دون شروط ـ طوال العشر سنوات الأخيرة على الأقل ـ وساعد في ذلك تواطؤ هذه البلدان مع حاكم ديكتاتوري مطلق ألغى الشعب ومصالحه مقابل الحفاظ على بقاءه حاكماً.
وعقب هذه الثورة سيكون هذا الخارج موجوداً بالتأكيد، لأنه خارج مهيمن ومصالحه موجودة في كل مكان، غير أن الجديد بعد الثورة أن الشعب الليبي سيكون حاضراً وستكون الفرصة متاحة في ظل حكم يحظى بشرعية شعبية هو خلق صيغة جديدة علاقات مع هذا الخارج، تقوم على توازن المصالح، مصالح مشروعة للخارج في إطار علاقات متكافئة تحفظ للشعب الليبي مصالحه، والاستفادة من ثروة نفطية أُقصي منها تماماً طوال 43 عاماً.
****
القضية الفلسطينية لن تكون خارج إطار هذا التحول في السياسة الأميركية، وهو تحول تفرضه وتضمنه الثورة العربية، إذا ما قُدر لها أن تمضي إلى آفاقها وآمالها المرجوة دون كثير عوائق ودماء يفرضها تشبث الأنظمة في مواجهة انتفاضات الشعوب العربية.
والعبارات التي تبدو بدون مضمون في السياسة الأميركية والتي تتحدث عن دولة فلسطينية في حدود "67" ستأخذ مضموناً أوسع مع استعادة الشعوب العربية لحريتها المصادرة داخلياً، ذلك أن الثورة العربية ستؤدي بالضرورة إلى إيجاد ميزان قوي جديد، يسند القضية الفلسطينية ويتجاوز سياسة التفريط والمساومة، كما يتجاوز بنفس القدر الجعجعات الفارغة التي ادعت مقاومة إسرائيل وقدمت القضية الفلسطينية ضداً على حق الشعوب العربية في الحرية والكرامة والوضع القادم الذي بدأت ملامحه الآن سيتوج حتماً بفرض حل عادل للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعودة اللاجئين من الشتات.
مصطفى راجح
تأثير الثورة العربية في الرؤية الجديدة للسياسة الأميركية 2280