قبل تحقيق الوحدة كان رهان البيض ورفاقه على القاعدة الشعبية في المحافظات الشمالية، الواقع أن الرفاق أخطأوا في قراءتهم لتركيبة المجتمع التقليدي والقبلي، فلو أنهم قرأوا كتاب (القبيلة في اليمن) للدكتور فضل أبو غانم لعرفوا طبيعة الدولة الهشة ونظامها الحاكم ولكان تقديرهم موضوعياً ولما انتصر عليهم الرئيس في أول انتخابات ولما قال عنهم متهكماً وساخراً بأنهم أخطأوا حين راهنوا على سقوط نظامه تحت وطأة الجماهير الزاحفة إلى الرئاسة.
انتخابات 27ابريل 93م بلا شك مثلت صدمة عنيفة لقيادة الاشتراكي وحلفائه اليساريين في الشمال، فنتائج هذه الانتخابات أظنها كشفت سوأة الرهان على الجماهير الشعبية المناهضة للنظام الرجعي العائلي الجهوي، سوء التقدير بدوره أضاع أخر فرصة مواتية للإصلاح والتغيير ليلج اليمن الموحد الأزمة السياسية ومن ثم حرب صيف 94م.
وإذا كانت الحرب قد مثلت طعنة قاتلة للوحدة والديمقراطية، فإن المنتصر زاد بالإجهاز عليها وبالقضاء على أية فكرة أو رؤية إصلاحية يمكن لها إعادة شركاء الوحدة أو تغيير صورة الديمقراطية النمطية المشوهة، فالممارسة العملية فعلت فعلتها إزاء كل فكرة متقدمة وعصرية يمكنها إصلاح ما أفسدته الحرب.
اليوم تبدو الصورة أقرب للكسب والربح، فما فشل فيه البيض ورفاقه وقتئذ صار الآن ممكناً، وما عجزت عنه المعارضة وحتى المؤتمر ذاته بات ليس مستحيلا، فالثورة الشعبية هدفها وغايتها اليوم إقامة الدولة المدنية الحديثة، فبرغم أن هذه الدولة المدنية كان يمكن البناء عليها بعد التوحد، إلا أن الواقع في شمالي الوطن كان أبعد من أن يستجيب ويتناغم مع مفردات النظام والقانون والمدنية التي حملها شريك الوحدة إلى الدولة الجديدة.
في ذاك الوقت ربما بدت مسألة التغيير كالحراثة في البحر، فالحاصل أن المجتمع في جنوبي الوطن كان سقفه مرتفعاً عن الدولة المدنية المتوافرة لديه منذ عهد الانكليز، بينما المجتمع في شمالي الوطن لم يكن جاهزا لتقبل فكرة الدولة المدنية القائمة في جنوبي البلاد، ناهيك عن كون هذه الدولة مازالت تعاني من تبعات الصراعات السياسية في البلاد ومن انهيار النظام الاشتراكي في أوروبا الشرقية.
هاتان المعضلتان بكل تأكيد انعكستا سلباً على طبيعة النظام وقيادته اللتين لم تكن بحال يسمح لها بتمديد وتوسعة الدولة المدنية إلى نطاق أوسع، بل وعلى العكس رأينا هذه الدولة تتراجع رويدا إلى أن تم تقويضها وتدميرها بحرب 94م وما لحقها من ممارسات ما قبل النظام.
في كلا الحالتين كان ولابد من ثورة شعبية في ذاك الأثناء أو اليوم، فارق زمني بين ما كان يجب فعله عقب التوحد وبين ما ينبغي عمله الآن، فإذا كان البيض ورفاقه قد أخفقوا حينها، فإننا نأمل ألا يتكرر الإخفاق ثانية.
نعم ثورة التغيير تأخرت عقدين بحساب الزمن، لكنها على الأقل لا تجهل طريقها ومصيرها مثلما سبق ورأينا، ربما كان على الجنوب الانتظار بدلا من السير مسرعاً أو كان على الشمال ألا يتأخر كل هذا الوقت، لا ادري ما إذا كانت الثورة المشاهدة تجسيدا لمقولة جبران خليل جبران (السلحفاة أدرى بالطرق من الأرانب)! أرجو ذلك.
محمد علي محسن
عودة البيض.... 2856