مساء الخميس الماضي كان تتويجاً عصيباً لأسبوع قلق ومتوتر مرت به الثورة اليمنية السلمية.
كان النظام قد تمكن من إخلاء ساحة تعز بعد إقدامه على جريمة حرب غير مسبوقة، بالتوازي مع هذا التحول واصل بث الرعب في العاصمة باستخدام قوة نيران مهولة، لا مجال لفهمها إلا في سياق نشر أجواء الخوف، لدفع سكان العاصمة للرحيل منها، وإفشال فعالية جمعة التضامن مع تعز، في العاصمة، والذي يؤدي في حالة تحققه إلى إفساح المجال كاملاً للاشتباكات المسلحة ودوي الانفجارات، لتصدر العناوين والمشهد كله ويدفع بالمحرك الأساسي للثورة المتمثلة بالحشود الشعبية الواسعة إلى التواري في الهامش.
من هنا يمكننا القول بأن احتشادات أول أمس الجمعة قدمت إثباتاً جديدا أن هذه الثورة السلمية سوف تنتصر في نهاية الأمر وتصل إلى هدفها بقوة الدفع الذاتي للشعب، ستصل سواءً نظر لها المثقفون أو لم ينظروا، تحدثت عنها الفضائيات والمحللون، أو انصرفوا ـ بحسب الصديق هائل سلام.
وبإمكاننا ترتيب أحداث الجمعة من حيث أهميتها للثورة السلمية، بوضع ساحة تعز في المقدمة، فتمكُن ثوار تعز من الخروج والاحتشاد بنفس الأعداد وإقامة صلاة الجمعة، واستعادة ساحة الحرية، يعبر عن قوة الإرادة التي تحرك أبناء تعز ومدى إصرارهم على الدفاع عن كرامتهم التي حاول النظام النيل منها بتلك الطريقة الهمجية في اقتحام ساحة التغيير بالأسلحة الثقيلة والرشاشات التي صوبت نحو المعتصمين وحصدت أجسادهم الطاهرة، في جريمة لم يتكشف منها حتى الآن إلا القليل.
وجاءت الاعتداءات والبذاءات التي وجهت للنساء المعتصمات في اليوم التالي من قبل كائنات مشوهة لا صلة لها بالآدمية والأخلاق قيل لنا أنها أفراد حرس جمهوري لتزيد من تأجيج الغضب والرفض للنظام وكل ما يتصل به من أساليب وممارسات وبلاطجة وقتل شوهوا بدلات الجيش اليمني الذي يدعَّون الانتماء إليه.
في العاصمة صنعاء لم يكن احتشاد الجموع الشعبية المناصرة للثورة في ميدان الستين أقل في مدلوله لتدعيم صمود الثورة السلمية، فبعد أسبوع من الصدمة والرعب، تواصل حتى صباح الجمعة دوي الانفجارات والرصاص، ومع ذلك خرج مئات الآلاف من بيوتهم، كسروا حاجز الخوف الجديد مرة أخرى، وتجمعوا في الستين ليقولوا كلمتهم، نحن هنا.
تبدو صنعاء وكأنها فارغة من السكان بعد نزوح أعداد كبيرة، والتزام كثيرين البقاء في بيوتهم ومع ذلك أكتظ الستين بالحضور ليقولوا للعالم أنهم قادرون على تجاوز مدافع الهاوزر وراجمات الصواريخ وقذائف المدفعية، أتوا ليكرروا مطلبهم الوحيد: "إسقاط النظام"، بأسلوب الاعتصام والهتاف بشعار الشعب، يمكن للفضائيات أن تستغرق في عرض أخبار الاشتباكات، واستضافة محللين يقفزون بخفة إلى ترديد الجملة المثيرة: "حرب ، فوضى ، حافة الهاوية، حرب أهلية"، غير أن اليمنيين لهم رأي آخر.
في أعماقهم استقر إحساس غريب بأن بلدهم سيكون في أمان.
شيء ما استثنائي يلمسوه بالإحساس فقط، يمنحهم الثقة بأن اليمن عصية في مواجهة المحن، أن اليمن لا تستسلم لنزعة تدمير عابرة تتوخى دفعها إلى الهاوية.
هي عاشت بالفعل سنوات طويلة من الاحتراب والصراعات، غير أنها أثبتت قدرة على التماسك الذاتي دونما بنية حكم مسيطرة، أثبتت الأيام أنها لم تكن الشرط الوحيد لتماسك اليمن بقدر ما كانت عاملاً تدميرياً أوغل في المقامرة بمصير البلد، وأثخنه بالتشظيات والانقسامات ولأن الإحساس أقوى من المنطق في أحيان كثيرة، يدرك اليمنيون الآن أن مستقبلهم يأخذ شكله ولونه من هذا الانبعاث في إرادتهم وتوحدهم ورغبتهم في الدخول إلى العصر من باب الحرية والكرامة واستعادة دورهم كصاحب حق وشرعية في اختيار الحاكم وعزله، بإرادتهم هم لا بعوامل القوة والغلبة.
هذا الإحساس والمتجسد مادياً بالثورة السلمية يبدو أقوى بكثير من أي مخاوف وقلق بشأن المستقبل الذي توحي به الاشتباكات ودوي المدافع وراجمات الصواريخ وبكل ما يثيره هذا الاستخدام الأهوج لقوة النيران، يبقى أمل اليمنيين بثورتهم وتوحدهم أقوى، ربما لأنه يمثل رغبة الحياة وإرادتها الخلاق، وهذه دوماً أقوى من الموت وممكناته وأدواته.