أقضي يومي وأنا أرغب بشدة في أن أستل قلمي المتعب وأتخيل نفسي كمحارب في خضم المعركة وساعتها لا أملك إلا أن أدافع عن نفسي ولا أملك لتلك النفس سوى سيفي (قلمي) الذي يقف حائراً وعاجزاً، لا بل ومكلوماً في أحيان كثيرة حين يفجع بواقع وطن أسكنته شغاف قلبي وحنايا صدري وأسكنني رصيفاً خاوياً وموحشاً، تكتظ فوقه أقدام المارة، الذين ينسون في أحيان كثيرة أقدامهم على ذلك الرصيف ويرمون بثقل أجسادهم للعراء.
عن وطن يتألم داخلي أكتب لكم قصتي من "أبين إلى صعدة" وعلى ذلك الامتداد يقف المواطن شامخاً، مطالباً بحقه في الحرية والكرامة, هذا الوطن هو حقي وحقك وحق الجميع دون استثناء، حضن كبير ممتدد فينا وتوق جارف للتحرر هو ما يدفعنا اليوم للصمود والتحدي رغم قسوة الضربات.
يجرفني القلم إلى نواحي شتى وعوالم رحبة، يجرفني إلى الحنين لعشقي الأزلي, عشقي الأول والأخير(عدن) سيمفونية كرامة ستعزف للأبد حين تحتضن الجميع على شطآنها دون تهميش أو إقصاء.
أنجرف بقوة أكبر إلى (لحج) ذلك الشموخ المنكسر وأتذكر هنا مقولة شاعرنا الشعبي (حمود نعمان) رحمه الله: (الأمل في لحج كالماء في كأس مشروخ)، يصعب الاحتفاظ به، لكن لن يمنعنا أحد أن نبقيه في قلوبنا رغم الظروف، ويبقى الحديث عن لحج حديث ذو شجون، خاصة داخلي ربما المأساة تكمن هنا أن الناس في لحج ينتظرون بلهفة من يشعل لهم شمعة ليضيء وحشة الطريق وما أن يأتي هذا الشخص حتى يتدافع الجميع فوقه، فيطفؤن شمعته وأحياناً كثيرة يحرقونه بها، ربما لحج بحاجة لأيادٍ كثيرة تحمل الشموع حتى يستعصي على أحد إطفاؤها مجدداً.
تأتي الموجة الثالثة لتجرفني بقوة أكبر لوطن يسكنني اسمه (حضرموت) الممتدة بين ضلوعي كامتداد هضبتها، هي حضرموت الوفاء وللحرية نبراس.
وعن (شبوة) قصة عشق خاصة وترانيم شوق وحنين لمسقط الرأس وجذور الأصالة.
تتتابع الموجات الرابعة والخامسة في هجيع الليل لتجرفني بقوة أكبر نحو الحلم في "تعز" الذي حولوه إلى كابوس موحش, هذه المدينة النقية الطاهرة بكل شبر فيها لي معها ذكريات حنين, وجدت فيها نفوساً تتوق للموت من أجل الحرية، وعقولاً مشعة حضارة وثقافة ومدنية، لكنهم يريدون للحلم الجميل أن ينكسر وها هو(قيران) لم يردعه أحد من البطش بعدن الحبيبة ليبطش بالنيران في تعز الآن وهيهات لأحلامهم الواهية أن تتحقق، عن وطن ينتابني كنوبة من ذعر وجنون.
تأتي بقوة كل الموجات تلك السادسة، هكذا تصيبني على حين غرة وتتركني صريعة لحلم الحرية الذي أرغبه وبشده لشعبي الذي لن تخمد بين عينيه جذوة النضال الذي سار على دربه منذ سنين. وهنا تجرفني نحو مصرعي الأخير حين يستبد بي يأسي وعجزي وخجلي أمام تلك الأرواح التي قدمت نفسها الطاهرة قرابين للحرية، فأسأل نفسي: ماذا قدمت أنا لقضيتي؟ ماذا ضحيت من أجل وطني؟ لم أقدم شيئاً أو ربما لم أقدم الكثير بعد لأشعر به بالرضا عن نفسي العاجزة التي تقف اليوم متألمة وأنا أجد اليوم أن كل شيء حولي أصبح مستهلكاً الوقت، المكان، الأغاني، الأحلام، السياسة، الأفلام، البكاء والنوم حتى أطفالنا الذين أنجبناهم صدفة في زمنٍ ما، كل شيء أصبح مستهلكاً حتى الحب والعشق والحبر على الورق المساء مستهلكٌ أيضاً، حتى وجهي الذي تعرض للصفع مرات، فأجبرني أن أكتب رغم أن هواجس الورق لا تكفي لتفريغ شحنات الذاكرة.
يقولون: الموت هو ما يجعلنا نتشابه، لكنني أجد الآن أن لا فرق بيننا، فكلنا ننسى أقدامنا على الأرصفة، كلنا مفعمون بالغباء، نتشارك وطناً ينقصه الكثير من الحكمة والذكاء، وأنا لا أكتب حتى تأتيني دهشةٌ ما تزورني من الماضي أو الحاضر أو المستقبل أو جميعهم، انتظر دهشةٌ ما تأتيني من ذاكرة البحر أو الجبل، فتمطرني الدهشة بكلماتٍ لا أفهمها كأسئلة الأصدقاء حين يقرأون لي شيئاً ما، فينعتوني بالذكاء، بالجنون، بالغباء، في انتظار دهشةٍ ما أقضي حياتي مشردةٌ في أزقة بلادي التي تحتفي بالنعاس، بالكلاب الضالة, والأقدام العارية بالسخف والحسد, الفقر والمرض ورجال يجرون أذيال خيبات النهار، حتى قصة(الحرية) في بلادي أصبحت تخيفني جداً وكل القصص حولها لم تعد تشبع خيالي، حتى أنها أصبحت من الأشياء المستهلكة وأصبح في عيني كل شيء عادياً إلى أن تأتي دهشة ما، فتعيدني إلى إنسانيتي وتحرر أحلامي المكبلة بسلاسل الجوع والأسى, في انتظار دهشة ما أقضي حياتي حالمةٌ بمُلك (ذي يزن) وعرش (بلقيس)، فأحلم وأحلم وأحـلم لأقتل الواقع حولي ويقتلني مجازاً شاعراً اسمه (الوطن).
شيماء صالح باسيد
عن وطن ............ 2321