مشكلة الثورة اليمنية أنها انشغلت بالتفاصيل اللاحقة أكثر من انشغالها في مسألة الحسم الثوري باعتباره الغاية الأساسية والجوهرية لأية ثورة شعبية، لماذا انشغلت الثورة بالتفاصيل؟ وكيف غفلت حقيقة أنها ثارت على نظام سياسي عائلي فئوي لا على معارضة تعاني السقم والجمود أو حراك جنوبي تتشاطره القيادات والرغبات المختلفة أو حوثية أو غيرها من القضايا الوطنية التي هي في الأغلب مشكلات من صنع النظام الفردي القبلي العصبوي؟.
في كل الأحوال هناك شبه إجماع على أن النظام القائم منذ ثلاثة عقود ونيف صار وجوده مشكلة مزمنة لا يمكن معالجتها إلا بالتغيير الثوري الجذري باعتباره الحل الوحيد الذي قد يجنب البلد المزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، خاصة بعد أن فشلت التجربة الديمقراطية في بلورة وصياغة قواعد وقوى جديدة يمكن التأسيس عليها لمستقبل أفضل .
لكن وحين قامت هذه الثورة على النظام الحاكم بكونه المشكل لا الحل وجدت الثورة ذاتها وسط حقل من الألغام المؤقتة التي ينبغي أخذها في الحسبان قبل العبور إلى دار الرئاسة في شارع الستين، هذه الألغام زرعها النظام خلال حروبه المختلفة، ففي الجنوب هذه الألغام ما فتأت تتفجر دونما توقف منذ حرب صيف 94م وحتى اللحظة .
وفي شمال الشمال أيضاً كانت حروب النظام قد خلفت وضعاً اجتماعياً جله قابل للانفجار مرة سابعة وثامنة، في الوسط وفي الشرق والغرب والشمال، لا بل وفي كل مكان وفي كل مؤسسة وناحية، هناك ألغام متعددة وخطرة إن لم تنفجر بوجه الثورة فعلى الأقل ستعيق مسيرتها وتمنعها من المضي إلى غايتها المرجوة .
اليوم وبعد مضي أكثر من نصف سنة وهذه الثورة مازالت في الساحات، فما هو السبيل لإخراجها من وضعها الراهن وكيف؟.. المؤكد أننا إزاء حالة ثورية مختلفة عن الحالات العربية الأخرى في مصر وتونس وسوريا أو حتى ليبيا .
فهنا على الأقل الجنوب كان دولة وشعباً قبل عقدين من الزمن لا كما هو حال المشرق والمغرب الليبي اللذين عزف القذافي ونظامه على وتر العرب والأمازيق ومع ذلك لم ينجح في تمزيق ليبيا، فالثورة لم تواجه مشكلة من هذا القبيل؛ إذ أن الشرق والغرب لم يشكلا ليبيا الحديثة كدولتين وإنما كجهتين تقاسمهما الانكليز والإيطاليين وعندما تحقق الاستقلال مطلع الخمسينيات .
شخصيا أعتقد أن أكبر مشكلة تواجه الثورة يمكن إيجازها بثلاث نواحي: أولها الدولة الهشة القائم نظامها على القرابة والمصاهرة والغزو، وهذا النوع من النظم عرفته الدولة في القرون الوسطى، الناحية الثانية وتتعلق بالثائرين ذاتهم والذين رغم اتفاقهم المبدأي على مسألة رحيل الرئيس ونظامه العائلي، لكنهم وحين الانتقال إلى الممارسة نجدهم مختلفين في الوسائل والأهداف والأسلوب الذي من شأنه تحقيق الحسم .
أما الناحية الثالثة فلها صلة بإرث مجتمعي وثقافي مثقل بالصراعات والمخاوف والتوجسات والمصالح الذاتية الأنانية والحسابات والعلاقات وغيرها من الأشياء التي مازالت كابحة لثورة مطلبها التغيير لكل قواعد وأركان النظام السياسي .
هذا التضاد بين ثورة غايتها المستقبل ووقودها ومحركها الشباب وبين ثورة غايتها إعادة إنتاج الماضي وفق رغبة الحرس القديم؛ بدوره جعل ثورة اليمن مراوحة في الساحات، فهي من جهة الساحات راغبة في التغيير، ومن ناحية القيادات السياسية والحزبية والدينية والقبلية والعسكرية لكل منها مخاوفه وحساباته تجاه عملية التغيير، ففي جميع الأحوال يجب أن يكون هذا التغيير محدوداً وجزئياً ولا يصل لحد القضاء والاستئصال الكلي .
خلاصة الكلام ثورة اليمن يستلزمها ثواراً على العهد القديم كلياً، فاليمن كبر بمساحته وشعبه وتطلعه وحاجته، وبالمقابل يوجد هناك من لا يستطيع أن يستوعب الحالة الثورية بكونها ضرورة تاريخية ومجتمعية من أجل إخراج البلد وأهله من مشكلاته وأزماته، فالواقع أن المسألة لم تعد تقتصر على إسقاط رئيس ونظامه العائلي وإنما تتسع دائرتها إلى إسقاط منظومة كاملة من الاعتقادات الخاطئة ومن القيادات والأفكار والمشروعات القديمة التي أكل الزمن عليها وشرب .
فهذه الثورة لا يمكن أن تحسم أمرها من دون أناس ثائرين على الماضي بكل ما يعني من تواريخ ومشكلات وقيادات وأفكار جامدة محنطة، نعم من يظن أن الثورة غايتها إسقاط الرئيس ونظامه؛ فرأس النظام قد سقط فيما بقاياه حتماً ستأخذ لها بعض الوقت فهذه الثورة هدفها أكبر من أن تستوعبه معارضة الداخل أو تستسيغه معارضة الخارج .
في الحالتين نحن إزاء ثورة في الأصل قام بها الشباب ومن أجل الحاضر والمستقبل ولكن مشكلة هذه الثورة هو رأسها القديم الذي لا يتواءم مع مقتضيات المرحلة وأجيالها الحاضرة، لذا تعذر الحسم وبقي الشباب يهتف للدولة المدنية الحديثة، بينما الحرس العتيق جل تفكيره وشغله منصباً في إعادة إنتاج الماضي .
محمد علي محسن
ثورة عصرية برأس قديم 2790