ليس بمقدور أحد، أن يكون هو الوطن وهو المانع والمانح ،وقت مايريد، ولايمكن أن يكون محتكراً ثروة البلاد والعباد، وينظر إلى حقوق المواطنين أنها هبة منه، وأنهم أشبه برعاياه وتحت نفوذه وسطوته، مثل هذا إنما هو أقرب إلى منطقة الجنون، حينما لا يجد المرء ذاته إلا من خلال ممارسة نفوذه وهيمنته بما يغيب الجانب القانوني والإنساني والضوابط الأخلاقية، التي تجعل الرئيس والمرؤوس في نظر القانون متساوين، هذا وحده مفتاح الرقي والتقدم.. وتغدو الحياة ألماً ومعاناة ومواجع كثيرة حينما تغيب قيم الحق والخير والجمال ،وتتحول ثروة وطن إلى مغتصبة، ويصير المواطن يستجدي حقوقه، وهنا مكمن الخلل الكبير ،ومدعاة للثورة التي عليها أن تنتصر للحقوق والواجبات برؤية عادلة وصائبة، ترفض الإقصاء والمصادرة وممارسة أي من العقوبات التي تتعلق بالقوت اليومي، باعتبار ذلك يندرج تحت طائلة جرائم ضد الإنسانية لمن يفقه المعنى النبيل للحرية والعدالة والمواطنة المتساوية.. ولذلك فأن أي نظام يلجأ إلى التلويح تحت أي ذريعة من الذرائع بقطع قوت المواطن في مرتبه أو أي حق مكتسب، باعتبار هذا محرماً أخلاقياً وقانونياً واللجوء إليه إنما يعني استلاب الإنسان حياته وقهرها ومحاولة إذلال بغيضة إلى الله والناس أجمعين، ولم يحدث في تاريخ البلدان الأخرى التي دخلت في أتون صراعات وحروب بين الأطراف المتنازعة أن حدث شيء من هذا، حيث يعتدى على حق المرتب، ونستحضر هنا الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في أبريل 1975م أواخر أيام الرئيس اللبناني (سليمان فرنجية)وراح ضحيتها أكثر من 150000 الف قتيل و20000 مفقود ومئات الآلاف من المشردين وبلغت الخصومة بين الأطراف في الدولة وخارج الدولة ذروتها.. ومع كل تلك الصراعات الدموية والمآسي بقيت الحقوق المالية تتعهد بها الحكومة ولم تقم بأي إجراء يطال فرداً واحداً طوال الحرب لتبقى جميع المرتبات حقوقاً مصانة لجميع الفئات والطوائف المتصارعة باعتبار هذا من المحرم أخلاقياً وقانونياً واللجوء إليه إنما هو جريمة ضد الإنسانية كما يؤكد ذلك فقهاء القانون..على هذا الأساس لا نجد نحن في اليمن إزاء واقع التهديد والتلويح بقطع المرتبات، إلا أنه تمرد حقيقي على القانون وعلى واجبات الدولة وامتلاك حصري لمقدرات بلد بفرض الوصاية على المال العام .. وهو ما لا يمكن القبول به مطلقاً.. وهو في هذا السياق إدانة حقيقية للنظام الذي يبرهن هنا وبقوة أن لا وجود للقانون واحترام حقوق المواطنة.. وأن ما يجري هو رهن فرد وتقاليد يسير عليها هذا الفرد، غير مكترث بمسمى الدولة وواجباتها، حين يمارس عقوبات خارج القانون والأخلاق بما يؤكد أن الثورة هنا ضرورية جداً، لأنها ضد الوصاية والتملك والمصادرة واحتكار الثروة والعبث بها ومنعها ومنحها حتى وهي مستحقات عمن يريد ولمن يريد..
بهكذا عمل جنوني تتهاوى الأنظمة التي تلجأ إلى مأزقة الواقع والتضييق على الإنسان، بما يؤدي إلى مفترق طرق، وإلى الثورة، انتصاراً ليزيح عنه مستبداً مستأثراً بالمال العام ،وفي كل الأحوال. فأنه في كل الصراعات التي جرت عالميا . لم يكن حق المواطنة مستلباً، وحقوق المواطن من مرتب وغيره كانت مصانة على الدوام ،لأنها معيار أخلاقي وقوة النظام بغض النظر عما يمارسه في السياق الآخر ،من فساد بلا حدود، لكن ثمة موانع حقيقية فيما يخص رواتب من هم لدى الدولة،فلا يمكن على الإطلاق مهما بلغت الخصومة من الشدة أن يصل الحال إلى مستوى حتى التلويح بهذا الجانب. على الأقل فيما نراه من شواهد في كل الحروب والصراعات التي خاضتها بلدان عدة.
وإذاً فإن مرتبات موظفي الدولة تبقى مرعية الجانب ومصانة وتعبر عن شعور النظام أخلاقياً بما عليه من واجبات الامتثال للدولة كمؤسسة تحكمها قوانين وفوقها الدستور، مهما كان المأزق الذي يطاله، باعتبار أن الخروج عن هذا المسار واللجوء إلى لقمة العيش تستلب من فم موظف بسيط إنما يعني مساساً بكل القيم الدينية والوطنية والقانونية، ومخالفاً لما هو متعارف عليه دوليا، ووصولاً بالحالة إلى فوضى تجتاح النظام ،الذي يستأثر بحقوق وحريات المواطنين ويذهب إلى حد التملك ،وهو ما يعني كل المجتمع أن يقف إزاء هذا الصلف والغرور الذي يذهب إليه كائناً من كان إلى حد قطع أرزاق البشر ومحاصرتهم في قوتهم اليومي، والإخلال أولاً وأخيراً بواجبات الدولة ،وفرط بالعقد الاجتماعي بين الدولة وأفراد المجتمع ،حين تغدو الدولة ارتهان فرد ،وهنا تصير الثورة ضرورية بل وحتمية، الحاجة إليها كما الماء والهواء ،لأنها تلبي حاجيات الإنسان المعيشية، ولأنها القيمة الأخلاقية والقانونية التي لابد منها لتستوي العلاقة بين المواطن والدولة والنظام وفق حقوق وحريات الإنسان التي ينكرها النظام على وطن ويصادرها على شعب.
محمد اللوزي
النظام والوصاية على المال العام 1774