;
د. محمد عبدالله الحاوري
د. محمد عبدالله الحاوري

الوطنية الحقيقية تمنح أصحابها الخلود الكريم في سفر التاريخ: 2210

2011-10-03 04:37:50


إن الوطنية الحقيقية تمنح أصحابها الخلود الكريم، والذكر الجميل، في كتاب التاريخ سواء على المستوى الوطني وربما الإنساني بحسب حجم الدور الذي لعبه أصحابها في حياة الأمم، والمهام الجليلة التي قدموها لشعوبهم.
لكن وطنية الملك في قصة يوسف قد أهلته أن يخلد ذكره في آيات القرآن الكريم، التي تتلى آناء الليل وأطراف النهار، ويصلى بها الناس في مشارق الأرض ومغاربها بامتداد ساعات الصباح والمساء.
إن هذا التخليد الكريم ينبه الناس إلى أمر غاية في الأهمية وهو أن الله سبحانه وتعالى شكور، فالذي يقدم خيرا للناس يشكر الله تعالى له ذلك، ويثيبه أحسن الجزاء، ويعطيه من الفضل أضعاف ما تفضل به ذلك الشخص على الناس.
إن الذين يحبون الخير لغيرهم ويسعون في نفع الناس جهدهم يلقون الخير من الله تعالى في حياتهم بسلامة شعوبهم وبتوفيقهم إلى الصواب، وتيسير الرجال الأكفاء لحل المشكلات العويصة، والخروج من المحن بأقل التكاليف، وبأفضل النتائج.
إن حب الملك للناس هي الوطنية الحقيقية وقد ترجمها في صورة أفعال يقوم بها الملك شخصيا ويباشرها بنفسه، ثم إن حبه لشعبه قد جعله يمكن يوسف من الأمر والنهي في مصر يتصرف في شئونها ويتحكم في أمورها، وهذا الحب هو حب عطاء للشعب وليس حب تملك للشعب، فهو يرى شعبه يستحق الحب، والفرق بين حب العطاء وحب التملك فرق كبير جدا، هو فرق بين حياة الشعوب وموتها، فحب العطاء وسيلة الحياة، وحب التملك أداة القتل وعنوان الهلاك، حب العطاء يجعل الملك يبحث عن الناجحين ليكون بهم فريق البناء، وحب التملك يزيح الأكفاء من الطريق لأنه يريد أن يستعبد الخلق، ويستبد بالبلاد وهو ما لا يرتضيه الأحرار ولا يرضون به، وحب العطاء يقوم على قاعدة أساسية وراسخة من سلامة النفس، واستقامة الضمير، وطيب العنصر، فلذلك يحبب إليه العطاء، وحب التملك يقوم على اعوجاج في الخلق أساسه النظر إلى الناس على أنهم أشياء تورث للأبناء والأحفاد، والنظر إلى الشعب على أنه كومة من البشر خلقها الله ليحكمها الفرد المستبد بهواه ويمكر بها بكل قواه، ويقتلها إن عصت أمره ورفضت ظلمه وأعلنت إنسانيتها ودافعت عن كرامتها.
إن التاريخ البشري يخلد الظلمة كما يخلد العادلين الأبرار، ولكن شتان بينهما، فأهل العدل من الحكام يشفعون بالحب، ويحفهم الثناء العاطر، ويزجى لهم التقدير والاحترام، في حين تظل اللعنات تلاحق الظلمة، فلا يذكرون إلا منعوتين بأبشع النعوت، وموصوفين بأقبح الصفات، تطاردهم مظالمهم.
قال المؤرخون: جبى عمر رضي الله عنه العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزيز مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف وما يؤخذ من ذلك يصرف في مصالح المسلمين الأهم فالأهم لأنه للمسلمين فصرف في مصالحهم.
إن ضبط الدولة يكون بالعدل، وليس بظلم الناس وقهرهم، والبغي عليهم، فقد كان الحجاج ضابطا لشئون الدولة ولا شك، ولكنه كان يضبطها بالظلم ولا ريب، فماذا كانت النتيجة، ازدهر الوضع الأمني، وامتلأت السجون بالمساجين، وعشش الخوف داخل كل نفس، وكان الناس يصبحون يقولون: من قتل أمس؟ من سجن البارحة؟ فتدهور الاقتصاد، فثار عليه فقهاء العراق وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وغيرهم من الأئمة الأعلام، وخرجوا يقاتلونه بالسيف دفعا للظلم، وطلبا للعدل.
إن غياب العدل هو المحرك الحقيقي للثورات، والعدل هو الشفاء من جراحات القلوب وجور الحوادث في الزمان، فالعدل هو العنوان الحقيقي للوطنية الحقيقية.
ذكر الماوردي في الحاوي الكبير: أن خراج العراق زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مائة ألف ألف درهم، وعشرين ألف ألف درهم، وحياة زياد مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف، وحياة عبيد الله بن زياد مائة ألف ألف، وخمسة وثلاثين ألف ألف، وحياة الحجاج ثمانية عشر ألف ألف، لغشمه وإخرابه، وحياة عمر بن عبد العزيز ثمانين ألف ألف، ثم بلغ في آخر أيامه مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، لعدله وعمارته.
قال أبو نعيم في حلية الأولياء: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يرمها به فعل. (لترميمها) فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت؛ فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، ونق (ينقي) طرقها من الظلم، فإنه مرمتها.
ذكر الحافظ ابن عساكر عن مالك قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه بعض ولاته: إن الناس لما سمعوا بولايتك تسارعوا إلى أداء زكاة الفطر، فقد اجتمع من ذلك شيء كثير، ولم أحب أن أحدث فيها شيئا حتى تكتب إلي برأيك.
إنه لا عدل إلا بالتدين، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. فالتدين هو الذي جعل عمر يسير في طريق العدل لأنه يخاف الله.
ومن هنا أقول بصدق: هاتوا لي عادلا غير متدين في تاريخ المسلمين لا تجدوه، فما أن تسامع الناس بولاية عمر بن عبد العزيز حتى فرحوا وتسارعوا بأداء ما عليهم من الأموال طواعية، وحتى ضبطت الدولة فلا تصرف فيها الأموال عبثا بغير حساب.
       إن الأوطان تبنى بالعدل، والعدل هو شرع الله وشريعته، والدولة العادلة الكافرة تنصر على الدولة الظالمة المسلمة، فالظلم خراب والعدل عمار للبلاد، وسعادة للعباد. تعريف الظلم هو كل ما خلاف شرع الله، ويعرف كذلك بأنه وضع الشيء في غير محله، فيقدم الجاهل، ويولى الظالم، ويصدق الكاذب، ويكذب الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين ويحيق بالناس الهلاك.
 أخرج ابن ماجه في سننه وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".
       إن الوطنية الحقيقية هي القيام بالواجبات المناطة بمن يتولى الأمر بما يرضي الله تعالى في أي أمر كبير أو صغير، وبما يعود بالنفع على الأمة، وبما يحقق المصلحة العامة ويحفظ لكل ذي حق حقه، ومن أهمها حق الأمة في الاستفادة من ذوي الكفاءات من الرجال، وعدم حرمانها من القدرات التي يهبها الله تعالى للناس.
إن مواقف الأمم تتباين من تلك القدرات والانتفاع بأصحابها، بين مستفيد من تلك القدرات ولو كانت من غير قومه أوتدين بغير دينه كما فعل ملك مصر في قصة يوسف عليه السلام، وهذا هو الالتزام الحقيقي بالوطنية الاستفادة من كل قدرة لمصلحة البلاد، وبين محارب لتلك القدرات، وقاتل لها، ومطارد لأصحابه، فيحرم الأمة من الانتفاع بها كما يفعل الطواغيت في كل زمان ومكان.
إن وطنية الملك في قصة يوسف عليه السلام موقف يستحق أن نتأمل فيه؛ لندرك كيف يكون اغتمام الملوك لأمتهم، واغتنامهم للقدرات في خدمة شعوبهم، واهتمامهم فيما يعود بالنفع على أمتهم، وكل ذلك يدعونا إلى التدبر والتأمل والتفكر في القرآن الكريم وقصصه، وأخذ العظة والعبرة منها، وقد ختم الله تعالى قصة يوسف.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد