منذ أن اندلعت الثورة اليمنية الشبابية الشعبية في الحادي عشر من فبراير من هذا العام ومحافظة تعز وهي العاصمة الثقافية لليمن تقدم الكثير والكثير لهذه الثورة، وما انطلاقة هذه الثورة من شارع التحرير وشارع جمال في تعز ومن ثم امتدادها إلى أنحاء الوطن أجمع إلا دليلاً على دور هذه المحافظة الريادي في الثورة اليمنية الحالية وفي كل الثورات والانتفاضات التي شهدها اليمن عموماً .
ولأن ثمن الحرية غالي، فقد دفعت تعز فاتورة الثورة والعزة والكرامة والحرية بأبهظ الأثمان، وقدمت تعز في سبيل هذه الثورة الكثير من رؤوس وأفئدة وأرواح وقلوب أبنائها، وسال الدم (التعزي) في كل شبر من تراب هذا الوطن، حتى أنه في مجزرة جمعة الكرامة كان العدد الأكبر من الشهداء من محافظة (تعز) رغم أن المجزرة كانت في (صنعاء)، وحتى وصلت المبالغة من كثرة نزيف الدم (التعزي) إلى قول بعض الظرفاء في دعاباتهم أن أول شهيد سقط في مدينة (درعا) السورية كان أصله من محافظة تعز.
ولا بخفى على أحد ما تمر به تعز منذ اقتحام ساحتها وإحراق شبابها وسط تلك الخيام، ومن يومها و(الرعب) يسيطر على هذه المدينة (الحالمة) التي أرادوا لها أن (تغضب) وتخرج عن سلميتها وحضاريتها وثقافتها التي تتميز بها تعز عن سائر محافظات اليمن، ولكن رغم كل القصف والهجمات العنيفة والشرسة على هذه المدينة إلا أن الجميع ما زالوا يصرخون وبأعلي صوت : سلمية..سلمية، وكم يزعج هذا الشعار فلول هذا النظام البائد، فتوجيه السلاح إلى صدورهم أهون عندهم من السلمية، لأنهم يعشقون الدماء، فاغتاظ (مصاصو الدماء) من مدى تمسك اليمنيين وخاصة أبناء تعز بسلميتهم، فجربوا كل الخطط والأساليب لجر الثورة إلى مربع العنف ولكنهم لم يفلحوا، فلجأوا إلى سياسة (العقاب الجماعي) ومن خلالها استهدفوا الشعب أجمع، غير أن تطبيق تلك السياسية كان بشكل نسبي من محافظة إلى محافظة، وكل محافظة تنال جزاءها من العقاب بمقدار صمودها ونشاطها الثوري، وكان على رأس المحافظات الأشد عقاباً محافظة تعز، كيف لا وهي محافظة العزة والكرامة، كيف لا وهي المحافظة التي سقت بقية المحافظات من (لبن) صمودها وإباءها، وسقتهنَّ من (مياه) ثقافتها العذبة رغم (ملوحة) مياه شربها وشحتها، كيف لا وهي أول من ردد أغنية الشعب المجيد : إرحل، كيف لا وهي من قدم الكثير والكثير لهذا الوطن، كيف لا وهي من حركت العالم عندما تم اقتحام ساحتها رغم التهميش الإعلامي الذي تناله وللأسف أنه يأتي – أحياناً – من القنوات المحسوبة على الثورة كقناة (سهيل) التي لم تغطِ محرقة تعز ولو بجزء يسير من الإمكانيات التي سخرتها لتغطية أحداث صنعاء، وهذه دعوة لـ(سهيل) للتعامل مع الجميع على أسس موحدة، فالثورة جاءت لتقضي على المناطقية والقبلية وسياسة (هذا من مطلع، وهذا من منزل)، ويكفي تعز فخراً أن أكثر شهداء الثورة هم ممن تربوا في أراضيها، وشربوا من مياهها، وتنسموا عبيرها، وإذا ما أردنا إحصاء مميزات تعز فسنحتاج للكثير من الوقت، وللكثير من الصفحات بل والكتب والمجلدات.
وبناء على كل هذا، ونتيجة لما قدمته تعز فقد كان العقاب (الصالحي)، حيث شهدت المدينة قصفاً عنيفاً متواصلاً منذ أشهر، ولكن ما حدث من مساء الثلاثاء إلى صباح الأربعاء كان شيئاً فوق الخيال، ينطبق عليه بحق أنه (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فقد عاشت تعز ليلة لم تعشها ربما في تاريخها أجمع، كان المشهد عصياً على الوصف، فلم تكن ترى إلا إضاءات الانفجارات العنيفة، وتشاهد الصواريخ والقذائف وهي تتجه إلى منازل الآمنين بدون أدنى مراعاة لحرمة النفس البشرية، وتشاهد المنازل المحترقة جراء كثرة الضرب والقصف عليها، قُصفت تعز عن بكرة أبيها، شارع جمال وشارع التحرير وحي الروضة والمسبح والسلام والنور والسلخانة والشماسي وزيد الموشكي وكلابة ووادي جديد ووادي القاضي وغيرها من المناطق، كان الضرب كثيفاً، والجثث ملقاة في الشوارع والأزقة ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها خوفاً من عمليات القنص، كان كل شيء مستهدف، الرجال والنساء والأطفال، السيارات والمباني والعمارات، الشوارع والأزقة والحارات، المستشفيات والفنادق وحتى (اللوكندات)، باختصار كان كل شيء مستهدف ويتعرض لعملية قصف من كل الجهات، فمن يعرف تعز يدرك كم كانت العملية العدوانية منظمة ومخطط لها بعناية، فقد كان الضرب من جهة مستشفى الثورة العام ومن قلعة القاهرة التاريخية ومن جبل جره في وادي القاضي ومن المعهد الصحي ومن معسكر الأمن المركزي ومن مبنى الأمن السياسي ومناطق أخرى، لم تسلم منطقة ولا حارة من القصف، أصوات العويل والصياح والبكاء ارتفعت، ونداءات الاستغاثة تتالت، كان الأمر أشبه بفيلم أكشن (هوليودي)، فلم يتصور عقل أن هذا يجري في الحقيقة على أناس عزل ليس لهم من ذنب سوى أنهم من تعز، هذه المدينة التي ترعبهم رغم حلمها الكبير وصبرها العظيم، المدينة التي تدمي قلوبهم رغم عدم حملها لأي سلاح، هذه المدينة التي تواجههم بصدور أبنائها العارية والتي ترفع شعار: الموت ولا المذلة !.
في حقيقة الأمر لا أدري ماذا أكتب، فما حصل لا يمكن وصفه، كنتُ فقط أتساءل وأنا أرى كل هذا الدمار والوحشية : هل هذه (تعز) اليمنية أم (كابول) الأفغانية، أم أنها (بغداد) العراقية ليلة اقتحامها من قبل الأمريكان، أم أنها (روما) الإيطالية التي أحرقها (نيرون) الذي خلف (نيروناً) آخر اسمه علي صالح، ما هذا الذي يحصل في بلد الإيمان والحكمة، وما هذا اللي يجري في محافظة الحضارة والثقافة والعلم، حقاً لقد كانت ليلة مرعبة بكل ما تعنيه كلمة الرعب من معنى، كانت رائحة (البارود) تفوح من كل مكان، وكانت رائحة الدم تنتشر عبر كل الأرجاء، ولكن ألهذا الحد قد بلغت بهم القذارة والخساسة وحب الكراسي، هل لأجل ذاك الكرسي اللعين ستقصف المدن بهذا الشكل، هل لأجل المناصب يموت الشعب أجمع وفقط يبقى الزعيم ؟!
ولكن، لأنها تعز فقد انتفض الجميع صباحاً، عاد الزخم الثوري بعد أن حاولت المدافع والدبابات إخماده، وحقاً يا لها من مدينة، ويالهم من رجال، أما نساء تعز فقد خرجن عصر الأربعاء في مسيرة حاشدة وسط المطر الغزير وجابت تلك المسيرة شوارع تعز حتى وصلت إلى ساحة الحرية، حينها أيقنت بأننا سننتصر مهما كان، لقد خرج الجميع يهتفون ويصيحون ويدينون وينددون، خرجوا ليستمروا في قول كلمة الحق التي سالت دماءهم لأجلها، فدمتي يا تعز، ودام كل رجالك ونسائك، دمتي مدينة للثورة والثقافة والحرية والعلم، دمتي عاصمة للشهداء الأحياء عند بارئهم، ولكِ من كل اليمن مليون قبلة وقبلة..يا معشوقتي يا تعز !.
tarekal.banna@yahoo.com