ما يحسب للحراك الجنوبي هو أنه أسقط مسألة التوحد بالقوة العسكرية والهيمنة القبلية والجهوية، بالمقابل ما يحسب للثورة الشعبية القائمة اليوم في محافظات الشمال هي أنها أسقطت حتى الآن فكرتي فك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية وكذا إسقاطها لمسألة التوريث أو الهيمنة العائلية والقبلية والجهوية في الشمال.
في الحالتين نحن إزاء حالة جديدة بدأت بالتشكل والتخلق في عموم اليمن، هذه الحالة لم تأتِ مصادفة أو تولد من العدم، وإنما تعد نتاج تزاوج الإقصاء والحيف وفي رحم واقع مجتمعي صقلته المعاناة وأنضجته الصراعات والمشكلات.
ربما قد يكابر الحراك وبعض قادته؛ أبوية الجنوب لهذه الثورة الشعبية أو سيذهب قادة الثورة لما هو أبعد من الاعتراف والجهر بأمومة الشمال لهذه الثورة ولهذا الكائن الذي مازال جنيناً وفي شهره التاسع، مثل هذا الكلام ربما عده البعض دعاية مجانية للثورة ولشبابها وقادتها وقد يذهب هؤلاء إلى قدح وذم ولعن العبد الفقير.
ومع كل ذلك أقول إن الثورة أسقطت فكرة استعادة الدولة وعلى هؤلاء إعادة التفكير بما جرى ويجري لهم ولمن حولهم لئلا يجدوا أنفسهم خارج سياق الزمن القادم الذي بدأت ملامحه تتشكل من خلال الثورات العربية التي يبدو أنها لن تقتصر على قُطر أو نظام بعينه، بل ستفضي إلى واقع جديد قد لا يتقبله الكثير من المحبطين واليائسين في الوقت الحاضر؛ لكنه من ناحية أخرى يبقى واقعاً وعلينا التعامل معه بعقل وحكمة لا بعاطفة ووجدان وإلا وجدنا أنفسنا كعصفور وحيد يغرد للشتاء بدلاً من الربيع.
في كلا الحالتين، هناك ثورة فريدة من نوعها وعلينا ألا ننشغل كثيراً في متاهة البحث العقيم حول ولادة الثورة وما إذا كانت هذه الولادة طبيعية أو قسرية، المهم بالنسبة لمعظم اليمنيين أنها ولدت وولادتها هذه جاءت من علاقة مشروعة، طرفاها جنوب رافض لوحدة القوة والهيمنة وشمال رافض لجمهورية العائلة والقبيلة.
قالت العرب: استشارة القلب يوماً واستشارة العقل دهراً، نحن للأسف الشديد ضحية جمعية لخطل عاطفي، نفسي، تاريخي، فكري، فاليمن وأهله هما الآن على المحك التاريخي الاستثنائي الذي لا ينفع معه التعامل بذات المنطق العاطفي الانفعالي الذاتي، الذي سيق به الجنوب إلى الوحدة أو الشمال إلى الحرب.
ففي الحالتين الاثنان الآن أمام لحظة تاريخية فاصلة وعليهما استثمارها، فالثورة الشعبية أظنها فرصة نادرة الحدوث وعلى اليمنيين أينما وجدوا ألا يتعاملوا معها بصلف ورعونة النظام الباغي نفسه.
حين استبد الجهل بالعلم واستبدت النفس بالعقل؛ ضاع الجنوب دولة ونظاماً وحقاً وشعباً، حقيقة لا يوجد سبباً مقنعاً ومنطقياً يدعونا لمناهضة الثورة بدلاً عن النظام العائلي.. شخصياً أعتقد أن القضايا المصيرية لا تحل وتعالج بالشعارات والخطابات الطوباوية وإنما من خلال الموضوعية والواقعية وتغليب المنافع والمصالح على ما دونها من أهواء ورغبات أنانية ذاتية.
إن أية عملية انتقال ايجابية يستلزمها رجال وعزائم وتضحيات، فالانتقال إلى الوحدة كان راديكالياً وعاطفياً أكثر من كونه واقعياً ومنطقياً، على هذا الأساس لا ينبغي تكرار ما حدث، فليس هناك ما هو أسوأ من الوقوف على قدمين ولكن في الهواء.
أتدرون ما مشكلة هذا الجنوب الثائر الهادر منذ خمسينيات القرن المنصرم؟ مشكلته الخطل الزائد غير متساوق دوماً مع منطق الواقع، ما نشاهده اليوم وما نلمسه من عنتريات صبيانية لا يمكن أن تنتزع حقاً مغتصباً أو تؤسس لوطن مختلف، يتعايش فيه كل أبنائه، فعلى العكس من ذلك فمثل هذه الأفعال المشينة والقبيحة لن تؤدي بنا لسوى الانحدار الأخلاقي والسياسي والذي بدوره سيزيد من التعقيدات والخصوم.
نعم ثمة ما يبرر هذا التوجس والارتياب من ركوب موجة الثورة دون حسبان للنتائج المترتبة من هكذا ثورة عارمة لا يعلم أحد بمداها وجدواها على الجنوب وأهله، لكننا هنا نتحدث عن موقف متعنت وصلف وجاحد لا يرقى لمصاف المشكلة والحل، بل أيضاً ولتضحيات ولنضال وتاريخ وقيم هذا الجنوب ورياديته وأبويته لكل الثورات العربية ولا أقول فقط الثورة اليمنية.